ليس جديداً أن نظام بشار الأسد سكت ويواصل السكوت عن اعتداءات إسرائيلية وعمليات قصف واستهداف شملت الأراضي السورية طولاً وعرضاً، أو حيثما قدّر جيش الاحتلال أنّ هدفاً على طول الساحل أو في وسط البلاد أو على الحدود الدولية مع العراق والأردن وتركيا يتوجب أن يُدمّر، مراراً وتكراراً. المعيار هنا مبسط/ موسّع في آن، يتركز حول تحييد النفوذ العسكري الإيراني، حيث يستوي "الحرس الثوري" مع مقاتلي "حزب الله" وعشرات الميليشيات والأذرع المذهبية التابعة للوالي الفقيه في طهران.
غير أنّ صمت النظام، الطويل المستدام الذي بات مألوفاً تماماً لدى رعاته وحلفائه قبل خصومه ومعارضيه، اتخذ صفة فاضحة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في أعقاب "طوفان الأقصى" وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة. كما اقترن بعلامات استفهام وتشكيك، وبعض الاستنكار والضيق، حين تزايدت على الأراضي السورية سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية لأفراد الصفّ الأوّل في “الحرس الثوري”، ولاح أنّ الاستخبارات الإسرائيلية تعتمد في دقّة التنفيذ على أشكال عون مختلفة من عملاء داخل أجهزة النظام. بعد اغتيال حسن نصر الله وكوادر قيادية عليا في "حزب الله"، صار من المشروع لبعض أطراف "جبهة الممانعة" أن تعلن، تلميحاً أو تصريحاً، نبرة عتب أو ملامة تستبطن اتهام الأسد بنكران الجميل ونسيان دماء الميليشيات الإيرانية والموالية التي أُريقت دفاعاً عن النظام.
ولقد تطوّر أكثر فأكثر هذا البُعد الفضائحي في سلوك النظام حين أخذ جيش الاحتلال الإسرائيلي ينشط في الجولان المحتل فيباشر عمليات نزع الألغام في عمق يصل حتى 700 متر داخل الأراضي السورية، في سفوح جبل الشيخ، وتجريف الأراضي الزراعية واستكمال ما يُعرف باسم "طريق سوفا 53" الذي يبلغ طوله 60 كم ويمتد من محيط القنيطرة الشمالي إلى حدود سوريا مع الأردن ويتفاوت عمقه فيصل إلى 1000 متر في بعض أجزائه.كذلك عمدت جرافات جيش الاحتلال إلى حفر الخنادق وإقامة السواتر الترابية بأطوال مختلفة، وتوسعت نحو مناطق غرب محافظة درعا وحدود محيط اليرموك مع الجولان السوري المحتل.
وقد يصحّ الافتراض بأنّ من المبكر الجزم حول أغراض دولة الاحتلال من هذه الاختراقات في عمق الأراضي السورية، وإنْ كانت هذه التحركات مقترنة بترتيبات هندسية لا توحي بإجراءات مؤقتة الطابع أو ذات صفة مرحلية وتكتيكية؛ الأمر الذي يقود إلى ستراتيجية توسعية بعيدة الأثر اتسمت بها سياسات دولة الاحتلال على الدوام، ولم يكن الجولان استثناء بأيّ معنى، خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المناطق المحتلة من الهضبة. في عبارة أخرى، ورغم صحة الربط بين متغيرات ما بعد "طوفان الأقصى" والحال الراهنة المشتعلة على طول الجبهات مع الاحتلال، فإنّ ما يشهده الجولان مؤخراً من جانب الاحتلال ليس منفصلاً عن منطق أعرض وأشمل، أبعد في الزمان وأعرض في النطاق.
ففي الوسع العودة إلى آخر جولة تفاوض بين النظام السوري ودولة الاحتلال، صيف 2008 برعاية تركية ولقاءات غير مباشرة بين رياض الداودي المستشار القانوني في وزارة خارجية النظام، واثنين من مستشاريْ رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت. يومها أشارت التسريبات إلى أنّ المشكلة التي عُلّقت في أعقاب فشل مؤتمر جنيف، أواخر آذار (مارس) 2000 بين حافظ الأسد والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، ظلت أيضاً جاثمة على طاولة الوساطة التركية. وتلك، للإيضاح، مشكلة تخصّ مفهوم الحدود الدولية السورية ـ الإسرائيلية، بين خطوط ما قبل 1967 مقابل خطوط ما قبل 1948، والضفة الشمالية الشرقية لبحيرة طبريا.
في الوسع، أيضاً، الاستئناس بجولة مفاوضات أسبق، سرّية بدورها وبرعاية سويسرية هذه المرّة، عُقدت سنة 2004 وجمعت رجل الأعمال الامريكي السوري الأصل إبراهيم سليمان ممثلاً للنظام، وألون ليئيل المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، والدبلوماسي الأمريكي جيفري أهرونسون الذي سبق له إجراء "جولات أفق" مع سليمان. وكانت تلك الجولة لافتة في جانب واحد على الأقلّ، لاح أنه يستبصر مستقبل تطبيع غير عادي بين النظام السوري ودولة الاحتلال؛ إذْ توصل رهط المتفاوضين إلى تفاهم حول منطقة النزاع ذاتها، التي سوف تُعلّق في جنيف، عن طريق تحويلها إلى منتجع سياحي أشبه بمنطقة منزوعة السيادة إذا صحّ التعبير، يُطلق عليها اسم "منتزه السلام"، ويحقّ للمواطنين السوريين والإسرائيليين الدخول إليها من الجانبين، دون تأشيرة خاصة.
ولأنّ الجولان منطقة استثمار سياحي ذات جاذبية عالية، خاصة في منتجعات التزلج على الجليد؛ والتقديرات تقول إنه غنيّ بمنابع مياه جوفية هائلة؛ ومشاريع الاستيطان فيه ليست "حمّالة متاعب"، على غرار الاستيطان في الضفة الغربية مثلاً؛ واعتراف ترامب بالسيادة الإسرائيلية عليه كان عامل تشجيع وطمأنة في آن معاً… فإنّ حكومة حرب متطرفة وعنصرية وفاشية، مثل هذه التي يترأسها بنيامين نتنياهو اليوم، لن تجد صعوبة في وضع هذه الاعتبارات على خلفية عسكرية وأمنية عنوانها الحدّ من نفوذ إيران في الجولان ومحيطه وجنوب سوريا عموماً، خصوصاً حين تقول المعطيات إنّ مفارز "الحرس الثوري" و"حزب الله" تنتشر في أكثر من 40 موقعاً بين الجولان ودرعا والسويداء.
هل جاء دور الجولان، إذن، في جبهات حروب دولة الاحتلال الراهنة والآتية؟ نعم، على الأرجح، مع فارق جوهري حاسم مفاده أنّ أية حرب إسرائيلية لن يكون هدفها المساس بالنظام؛ بل ستقتصر على تقويض ما أمكن من نفوذ إيران العسكري على الأراضي السورية عموماً، وفي الجولان والجنوب السوري خصوصاً. فليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد إفصاح نتنياهو عن ستراتيجية الاحتلال المركزية في العلاقة مع النظام السوري: "لم تكن لدينا مشكلة مع نظام عائلة الأسد، فطوال 40 عاماً لم تطلق رصاصة في هضبة الجولان. والأمر المهم هو الحفاظ على حريتنا في العمل ضد أية جهة تعمل ضدنا"، قال نتنياهو، صيف 2018، في اختتام زيارة حافلة إلى موسكو. أفيغدور ليبرمان، وزير حرب الاحتلال يومذاك، توقع أنّ "الجبهة السورية ستكون هادئة" مع استعادة الأسد "للحكم الكامل" في سوريا.
والحال أنّ حقيقة أولى، ماثلة وساطعة، أشارت وتشير إلى 57 سنة في الواقع، وليس 40 سنة كما احتسب نتنياهو؛ خلالها كان الناظم لعلاقات القوّة بين سوريا حزب البعث، بعد 1967، ودولة الاحتلال، هو حالة العداء في اللفظ والجعجعة فقط، مقابل الاستسلام الفعلي على الأرض. ولم تكن تلك حالة "اللاسلم واللاحرب" كما شاع، بل حالة سلم الأمر الواقع؛ الذي حالت أسباب مركبة، داخلية وتخصّ نظام "الحركة التصحيحية"، دون التعاقد عليه في اتفاقيات علنية. حقيقة ثانية تقول إنّ الجولان أرض سورية أضاعها الأسد الأب على دفعتين، حين كان وزيراً للدفاع سنة 1967 ورئيساً دكتاتوراً سنة 1973؛ ولا يلوح أنّ معجزة من أيّ نوع سوف تمنح وريثه الأسد الابن فرصة استردادها سلماً، بعد انتفاء عناصر استردادها بالقوّة.
فإذا شاء نتنياهو أنّ دور الجولان قد أزف على لائحة حروبه، فإنّ الأسد لن يمعن في مزيد من صمت القبور عسكرياً أو الامتناع حتى عن الجعجعة اللفظية في وسائل إعلام نظامه، فحسب؛ بل الأرجح أنه سيلوذ بحمى راعيه الثاني الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإنْ على حساب الراعي الأوّل علي خامنئي، آملاً دائماً في وصل ما انقطع من حبال المساومة والتنازل والرضوخ.
(القدس العربي)