بصمات

"ملوك الطوائف".. والدرس المنسي!

فرحوا بقصورهم، وافتخروا بشعراء بلاطهم، وعاشوا في رغد بعيدًا عن السهر على مصالح شعوبهم، هكذا كان ملوك الطوائف، الذين تسلق كل واحد منهم على جثة الدولة الموحدة، وتقاسموا الأندلس، بحثًا عن مجد شخصي وملك فردي، على حساب الجماعة ووحدة الصف، والأنكى أنهم ذهبوا يتآمرون على بعضهم البعض، ويتفاخرون بالتحالف مع عدو متربص فضاع الناس وضاعت الأرض، فهل نعي الدرس المنسي؟ أم على قلوب أقفالها؟.

صعد ملوك الطوائف على جثة الخلافة الأموية رمز وحدة الأندلس، وتقاسموا البلاد التي كانت في قمة ازدهارها الحضاري، وبدأت رقصة الغدر بينهم، كل يبحث عن مصلحته ولو على حساب أهله وعشيرته، اشتروا الكراسي حتى ولو كان الثمن التحالف مع العدو والتذلل والخضوع له، بل وتسليمه المدن والتنازل عن الأرض مقابل البقاء في السلطة. تفاخروا بالألقاب الفخمة رغم بؤس الواقع، صاروا سخرية بعض من فهم عبثية اللحظة مثل الشاعر ابن رشيق القيرواني الذي قال شعرًا يخلط بين السخرية والمرارة:

مما يُزهدني في أرض أندلس    /   سماع مقتدر فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها  /  كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد

حاول الفقيه أبو الوليد الباجي أن يستصرخ ملوك الطوائف من أجل وحدة الصف، والوقوف في وجه اشتداد الهجمات الإسبانية على الأندلس، لكن دعوته لم تلقَ القبول من ملوك خلدوا للدعة، وهو ما عبّر عنه المؤرخ ابن بسام في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، ملخصًا جهود الباجي:

"ومشي بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبت من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف أسماعًا واعية، بل نفخ في عظام ناخرة وعطف على أطلال داثرة، بيد أنه كلما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب وأجزل حظه في التأنس والتقريب، وهو في الباطن يستجهل نزعته ويستثقل طلعته".

ملوك الطوائف انشغلوا بالمكسب الشخصي على حساب مصالح الشعوب التي دفعت الثمن بفقدان الأرض والتهجير والأسر

وصل الأمر بالبعض إلى حد الغفلة، فوضع الذئب بجوار الغنم، كما فعل يحيى بن ذي النون حاكم طليطلة، الذي استضاف الأمير ألفونسو السادس الهارب من صراع الإخوة في مملكة قشتالة الإسبانية، وسمح له بالتنقل داخل المدينة بكل حرية، فجمع ألفونسو كل المعلومات المتعلقة بتحصين المدينة ومعرفة أحوالها خلال التسعة أشهر التي قضاها داخل أسوارها، قبل أن يعود إلى بلاده بعد وفاة أخيه ليجلس على العرش، لينطلق بعدها في مهاجمة طليطلة، ثم يحاصر المدينة سبع سنوات حتى سقطت، هذا وملوك الطوائف ينظرون ولا يتحركون لنجدة المدينة، التي تتميّز بكونها واسطة عقد شبه جزيرة أيبيريا كلها، فعد تاريخ سقوطها سنة 487هـ/ 1085م، بداية النهاية للوجود العربي الإسلامي، والنقطة التي بدأت رقعة الأندلس فيها في التراجع والاضمحلال.

ألفونسو السادس، الذي استفحل أمره وتلقب بإمبراطور الملتين، استغل حالة الفرقة والخصام بين ملوك الطوائف، فبدأ في الاستيلاء على حصون وسط الأندلس، الأمر الذي أثار مخاوف النخبة المثقفة التي حاولت استصراخ الهمم، وعبّرت عن يأسها من ملوك الطوائف الذين استخدموا العدو المتربص للتخلص من بعضهم البعض.

حتى قال ابن العسال أبياته الشهيرة تعبيرًا عن الغضب واليأس من حكام عصره بعد تخليهم عن إنقاذ طليطلة:

حثوا رواحلكم يا أهل أندلس   /    فما المقام بها إلا من الغلط

السلك يُنثر من أطرافه وأرى  /   سلك الجزيرة منثورًا من الوسط

من جاور الشر لا يأمن عواقبه  /  كيف الحياة مع الحيات في سفط

جاءت استجابة ملوك الطوائف متأخرة وبعد فوات الأوان، وعند نية التحرك لمواجهة الخطر الذي انطلق يهدد كل قواعد الأندلس، لم يجدوا عندهم القوة الكافية، لذا كانت النجاة بطلب العون من المرابطين في بلاد المغرب بقيادة يوسف بن تاشفين، فكان انتصار الزلاقة سنة 479هـ/ 1086م، لكن رغم الانتصار الكبير لم ترجع طليطلة وضاعت إلى الأبد، بسبب الغباء وقصر النظر السياسي لملوك الطوائف الذين انشغلوا بالمكسب الشخصي على حساب مصالح الشعوب المقهورة، التي دفعت الثمن بفقدان الأرض والتهجير والأسر.

درس آخر من دروس التاريخ يبدو أنّ البعض ينساه ليُحكم علينا أن ندور في دوائر مفرغة

ورغم انتصار الزلاقة وتوحيد الجبهة المغاربية الأندلسية، إلا أنه سرعان ما نُسي الدرس، واستمر الأمر حتى اليوم الأخير للأندلس، أجيال تنسى الدرس وتسالم العدو وتخاصم القريب، فتأتي صحوة تأخر السقوط إلى حين، ثم تعاود الأندلس سيرتها الأولى، فبذرة ملوك الطوائف ظلت متجذرة في الأرض تطرح كل حين نبات الحنظل، حتى ضاعت الأندلس في النهاية.

هنا درس آخر من دروس التاريخ، يبدو أنّ البعض ينساه، ليُحكم علينا أن ندور في دوائر مفرغة تحتاج للكسر ونخرج من إسارها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن