هي عمليات تجاهلت تأثيرها للأسف القيادة الرسمية الفلسطينية، أو لم تستطع التصدي لها، لتحصد لاحقًا نتائجها المدمّرة.
العملية الأولى، الفصل الكامل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث حصر الإسرائيليون بعد توقيع اتفاق أوسلو حرية التنقل بين الضفّة والقطاع في عدد محدود من مسؤولي السلطة، ودمّروا بذلك الوحدة الاقتصادية والتعليمية والصحية، وإلى حد ما الإنسانية، بين سكان قطاع غزة وبقية فلسطين. وأدى ذلك بالطبع إلى تفكيك الروابط السياسية والاجتماعية، وانتهى الأمر بوقوع الانقسام المريع عام 2007 بين الضفة والقطاع وبين حركتي "حماس" و"فتح". وهو انقسام أصبح مهيمنًا على الساحة السياسية والاقتصادية الفلسطينية، وأصبح مصدر نزيف دائم للطاقات الفلسطينية.
العملية الثانية، فصل القدس عن الضفة الغربية، وهي عملية عزّزت النشاط الصهيوني لتهويد القدس، وحرمت أجيالًا فلسطينية بكاملها من حقّ الوصول للقدس والأماكن المقدّسة فيها، حتى وصلت مساعي التهويد إلى المسجد الأقصى نفسه، وبعد أن ألغت إسرائيل من جانب واحد التزامها بالحفاظ على وجود المؤسسات الفلسطينية.
العملية الثالثة، تقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى كانتونات أو جيتوستانات معزولة من خلال فصل ما تسمى مناطق (ج) التي تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية وتكريسها للاستيطان، وتجزئة ما تبقى من الضفة الغربية إلى 224 جزيرة محاصرة بما لا يقلّ عن ثلاثمائة مستوطنة وبؤرة استيطانية، وطرق الفصل العنصري المحرّمة على الفلسطينيين، وما لا يقل عن 650 حاجزًا عسكريًا، وجدار الفصل العنصري الذي التهم 18% من مساحة الضفة الغربية.
الهدف المركزي لهذه العمليات الثلاث هو تحويل الضفة إلى أرض "إسرائيلية" فيها مدن وقرى فلسطينية "غريبة"
والهدف المركزي لهذه العمليات الثلاث، الذي يحاول اليوم وزير المالية والاستيطان الفاشي سموتريتش تكريسه، هو تحويل الضفة الغربية من أراض فلسطينية فيها أجسام غريبة (المستعمرات الاستيطانية) إلى أرض "إسرائيلية" فيها مدن وقرى فلسطينية "غريبة" بالأسلوب نفسه والطريقة نفسها التي اتّبعت مع التجمعات السكانية الفلسطينية في أراضي 1948، بعد النكبة.
العملية الرابعة والأخطر، التوسّع الاستعماري الاستيطاني الذي لم يتوقف للحظة واحدة منذ وُقّع اتفاق أوسلو عام 1993 والذي ارتكبت القيادة الرسمية الفلسطينية بتوقيعه أكبر أخطائها، حيث وقّعت اتفاقًا مرحليًا دون اشتراط وقف التوسّع الاستيطاني الاستعماري كما كان يطالب د. حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني لمؤتمر مدريد، وللمقارنة يكفي أن نذكر أنّ عدد المستوطنين عندما وُقّع اتفاق أوسلو لم يتجاوز 122 ألف مستوطن، وأصبح اليوم 750 ألف مستعمر مستوطن.
العملية الخامسة، الخنق الاقتصادي، والذي تجلى في الحصار الإجرامي على قطاع غزة، وفي السيطرة على معظم أراضي الضفة الغربية و85% من مياهها وفرض وحدة جمركية وضريبية على الفلسطينيين والتحكم بالواردات والصادرات، وهو ما سمح به اتفاق باريس الاقتصادي سيء الصيت، بالإضافة إلى الاجتياحات العسكرية المدمّرة، والتحكم بواردات السلطة الفلسطينية من الضرائب التي يدفعها الفلسطينيون، وتوريط الفلسطينيين بمنظومة القروض الاستهلاكية، والنتيجة اليوم أنّ على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمن السلع والبضائع والمياه والكهرباء حسب التسعيرة الإسرائيلية، حيث يبلغ الدخل القومي للفرد 56000 دولار في حين لا يصل إلى 3000 دولار للفرد الفلسطيني، بل إنّ الفلسطينيين يُجبَرون على دفع ضعف ثمن المياه والكهرباء بالمقارنة مع الإسرائيليين رغم أنّ دخل الإسرائيلي يفوق دخل الفلسطيني بثماني عشرة مرة. وبالإضافة إلى ذلك، يُستخدم الفقر والبطالة، لتكريس إستغلال إسرائيل للعمّال الفلسطينيين ودفع الشباب المتعلّم نحو الهجرة.
العملية السادسة، محاول استبدال الآمال الوطنية للشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير والعودة برموز هزيلة، وما يُسمّى "سلامًا اقتصاديًا" مع الضغط المتواصل لتحويل السلطة الفلسطينية إلى "وكيل أمني" للاحتلال.
لا يمكن مواجهة الهجمة الاستراتيجية الإسرائيلية إلا باستراتيجية وطنية مقاوِمة وموحّدة
وفي الخلاصة، فإنّ النتيجة النهائية للعمليات الإسرائيلية كان تكريس الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، وإنشاء نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري الأسوأ في تاريخ البشرية.
لكن وعلى عكس التوقعات الإسرائيلية لم يرحل الفلسطينيون، بل ازدادوا تمسكًا بوطنهم حتى أصبح عددهم يفوق عدد اليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية، وترسّخت لدى غالبية الشعب الفلسطيني القناعة بأنّ حماية مستقبلهم هو بتصعيد المقاومة والكفاح الوطني بكل أشكاله، وليس بالاستمرار في المراهنة على أوهام "أوسلو"، والمفاوضات، والحلول الدولية.
ما قامت وتقوم به الحركة الصهيونية يستند إلى استراتيجية مُحكمة هدفها ضمّ الضفة الغربية، وتهويد كل فلسطين، وهي لم تعد تخفي ذلك. ولذلك لا يمكن مواجهة الهجمة الاستراتيجية الإسرائيلية بردود أفعال تكتيكية، أو استمرار المراوحة في نهج المفاوضات الذي فشل، بل باستراتيجية وطنية مقاوِمة وموحّدة.
(خاص "عروبة 22")