صحافة

هل يعني ابتعاد شبح الحرب الإقليمية نهاية حرب غزة؟

إبراهيم نوار

المشاركة
هل يعني ابتعاد شبح الحرب الإقليمية نهاية حرب غزة؟

نستطيع أن نستنتج، بقدر من اليقين، أن الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني يسدل الستار على الفصل الأخير من حرب غزة. ذلك أن التهويل في نتائج الرد التي تدعيها تل أبيب، يبرر الاكتفاء به، وأن التقليل من أهمية نتائجه كما تقول طهران، يبرر عدم التصعيد.وقد أشار المرشد الأعلى الإيراني السيد علي خامنئي إلى أنه في الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى تضخيم نتائج الرد من أجل أجندتها الخاصة، فإنه "من المضلل بالقدر نفسه التقليل من شأن الحادث ورفضه باعتباره غير مهم". ونبه في لقاء مع أسر الشهداء (27 من الشهر الحالي) إلى أن المسؤولية في تقييم الموقف وتقدير ما يجب القيام به تقع على المسؤولين.

المسؤول الثاني في النظام رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان قال، إن بلاده لا تريد حربا مع إسرائيل، لكنها مستعدة لذلك. وقد وجه خامنئي رسالته للإيرانيين في عبارة بسيطة تقول إن "إيران القوية هي التي يمكن أن تحمي وتضمن أمن وتقدم البلاد وشعبها. لذلك يجب أن تصبح إيران أقوى كل يوم في جميع الأبعاد الاقتصادية والعلمية والسياسية والدفاعية والإدارية". وعليه نقول إن بناء القوة الشاملة بغرض تحقيق التوازن مع إسرائيل هو المهمة التي حددتها إيران لنفسها في الوقت الحالي.

ومع ذلك فإن ابتعاد شبح الحرب الإقليمية الشاملة، لا يعني أن إسرائيل سوف تغض البصر عن البرنامج النووي الإيراني، أو البرنامج الصاروخي، ولا عن البرنامج الجديد لتوطين صناعة الطائرات العسكرية المتقدمة بمساعدة روسيا، بل إن إسرائيل، في أي لحظة، كلما وجدت ثغرة تنفذ منها، لن تتردد في توجيه ضربة، خصوصا إذا قامت بذلك من دون إعلان مسؤوليتها، أو من دون ترك دليل يشير إليها.

حرب غزة إذن لم تتحول إلى حرب إقليمية شاملة. هذا يعني أن مرحلة "ما بعد الحرب" تبدأ عمليا من الآن. تلك المرحلة لم تبدأ بعد اغتيال اسماعيل هنية، ولا بعد اغتيال حسن نصر الله، ولا بعد اغتيال يحيى السنوار. ذلك أنه بعد استشهاد كل واحد منهم استمرت الحرب وتوسعت واشتعلت أكثر، وهي تنتقل من جبهة إلى جبهة. كما أن نهاية الحرب لا تعني نهاية المقاومة طالما بقي الاحتلال، وأن الحرب لم تحسم الصراع.

وبناء على ذلك فإن كل القوى، بما فيها المقاومة، تحتاج إلى إعادة تقييم الموقف، وإعادة صياغة الاستراتيجية. لكن ذلك من الصعب جدا القيام به بشكل سليم قبل ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية، لأنها تنطوي على انتقال للسلطة داخل البيت الأبيض، قد يتطلب إعادة تقييم الموقف مرة أخرى. ومن ثم فإنها في الأيام والأسابيع المقبلة، وربما حتى أوائل العام المقبل، حين يتولى فريق جديد مقاليد الإدارة، سيتركز مجهود السياسيين والعسكريين على صياغة خيارات استراتيجية جديدة تتلاءم مع الحقائق الجديدة على الأرض.

السياق السياسي للحرب

الحرب في سياقها السياسي والعسكري أسقطت استراتيجية الردع الإسرائيلية، ونقلت جزءا من مجهود المقاومة إلى داخل إسرائيل للمرة الأولى منذ بدء الصراع، لكنها في الوقت نفسه أسفرت عن إقامة واقع جديد وحقائق مختلفة على الأرض، تستدعي أخذها في الاعتبار في المرحلة التالية. ويبدو من دراسة رد الفعل الإسرائيلي والتعليقات التي صاحبته، أنه جاء متسقا مع النظرة الصهيونية إلى الزمن؛ فإسرائيل لا تتعامل مع الزمن على أنه أمر واقع، ولكن على أنه مراحل متصلة ديناميكية، يتم خلالها من مرحلة إلى أخرى بناء أمر واقع جديد، وبعد تثبيته يبدأ الشروع في بناء أمر واقع آخر.

في هذا السياق فإن ما بعد 7 أكتوبر يمثل امتدادا لسياق سياسي، بدأ بعد حدوث انتقال سياسي political shift داخل إسرائيل، لمصلحة اليمين الديني الصهيوني المتطرف في الانتخابات الأخيرة عام 2022. وقد فشل نتنياهو في تشكيل حكومة من دون التحالف مع أحزاب التحالف الديني الصهيوني الثلاثة (التوراة اليهودية المتحد) بقيادة آرييه درعي و(الصهيونية الدينية) بقيادة بتسلئيل سموتريتش و(العزيمة اليهودية) بقيادة إيتمار بن غفير.

وفي السياق الفلسطيني فإن عملية طوفان الأقصى جاءت بمثابة رد الفعل العنيف، أو النقيض المكافئ لسياسة اليمين الديني الصهيوني تجاه الفلسطينيين. وكنت قد كتبت مقالا في أحد المواقع المصرية بتاريخ 5 فبراير 2023 بعنوان "منطقة على حافة بركان.. كيف يغذي صعود الصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل قوة حماس ونفوذ إيران الإقليمي"، وهو عنوان يلخص موضوع المقال، محذرا في ذلك الوقت من البركان المقبل، الذي يهدد استقرار المنطقة، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تفرض على الضفة الغربية حربا غير معلنة، تستهدف تغيير الأمر الواقع هناك.

إن ما قام به مقاتلو حماس في 7 أكتوبر لم يأت من فراغ، وإنما جاء في سياق سياسي يؤكد صحوة المقاومة ضد التطرف الديني الصهيوني، وتضامنا مع المقاومة في شمال الضفة الغربية. وخلال أكثر من عام فشل النظام الدولي في دفع التطور السياسي الموازي للحرب، نحو وضع برنامج عملي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والانتقال بالوضع بأكمله من القتال إلى دبلوماسية حل الدولتين. ولهذا فإن نهاية حرب غزة ليست نهاية تقليدية، لأن الحرب لم تحقق أهدافها لأي من الطرفين، وهو ما يضع كلا منهما في مأزق حقيقي، يستدعي التفكير بعمق في ترتيبات مرحلة ما بعد الحرب.

من ناحية إسرائيل فإنها مهمومة بهواجس البقاء والخوف من جيرانها. وهي تعتقد أنها لا تستطيع أن تعيش إلا بالقوة، وإنها من دون إخضاع جيرانها ستزول. وبالنسبة للفلسطينيين فإن إنهاء الاحتلال والحصار وتأكيد حق تقرير المصير هي الشروط التي من دونها لا يتحقق الأمان لهم. وفي كل من الحالتين فإن التوصل إلى تسوية سياسية بعد الحرب يتطلب أن تكون تلك التسوية مقبولة من الطرفين. البديل في عدم تحقق ذلك هو اشتعال الحرب مرة أخرى، طالما بقي الاحتلال والتوسع الاستيطاني ومحاولات إبادة الهوية الفلسطينية.

خيارات ما بعد الحرب

تتركز أهداف ما بعد الحرب بالنسبة للمقاومة، في العمل على تهديد وتقويض النتائج العسكرية السلبية، والاستمرار في استراتيجية نقل الحرب إلى داخل إسرائيل، وتأكيد سقوط استراتيجية الردع الاسرائيلية، وإنهاء الاحتلال والحصار، وتوفير الأمن الداخلي والمساعدات الإنسانية، وبناء استراتيجية سياسية موازية تقود إلى حق تقرير المصير وإقامة تعايش فلسطيني – إسرائيلي على أسس عدم الاعتداء واحترام السيادة، والتعاون السلمي.

أما بالنسبة لإسرائيل فإن مرحلة ما بعد الحرب تعني تثبيت النتائج العسكرية للحرب، وحمايتها سواء في غزة أو جنوب لبنان. هذه الأهداف تكشف تناقضا شديدا في الاستراتيجية على الجانبين. وهو ما يعني أن أقوى خيارات ما بعد الحرب، هو العودة للحرب! وأشير هنا إلى ما قاله مئير بن شبات رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، في مقاله (15 من الشهر الحالي)، مستذكرا ما كتبه الصحافي الإسرائيلي زئيف شيف في مقال بعنوان "زلزال أكتوبر" (1973) جاء فيه: "لقد هزت حرب يوم الغفران إسرائيل من جذورها. فقد أفسحت الثقة المفرطة المجال للشكوك. واهتزت الثقة بالنفس. وفجأة ظهرت أسئلة كانت مكبوتة لفترة طويلة أولها: هل سنعيش إلى الأبد بحد السيف؟".

هذا السؤال المصيري ما يزال يسيطر على عقول الإسرائيليين. وكتب بن شبات تعليقا على شيف أنه بعد خمسة عقود من الزمان: "لا يزال هذا السؤال ينخر في نفسية الإسرائيليين. وفي حين يظل المستقبل البعيد غير قابل للتنبؤ، فإن إسرائيل لا ترى في المستقبل المنظور أي خيار سوى الانتصار (يقصد بحد السيف)". وأضاف في مقال لاحق (23 من الشهر الحالي) أن العمليات العسكرية على كل الجبهات، هي التي سترسم ملامح الأمر الواقع الجديد. ونقول له إن خمسة عقود تلت حرب 1973 لم تكتب لإسرائيل حق احتلال أرض ليست لها، ولا إبادة شعب يقاوم من أجل وطن حر.

لكن الانتقال من الحرب الدائمة إلى حل الدولتين، ليس سهلا، ولن يتحقق إلا بعد تحول سياسي عميق في الاتجاه العكسي لما حدث قبل عامين في إسرائيل. ومن حسن الحظ أن هناك من يلتقي مع وجهة النظر هذه على الجانب الآخر. وأختتم هذا المقال بما كتبه ناداف تامير المدير التنفيذي لمنظمة "جى ستريت- J Street" المناهضة للحرب، في مقال أخير نشرته صحيفة جيروساليم بوست (27 من الشهر الحالي)، اعتبر فيه أن إسرائيل فضلت على مر السنين، وفي منعطفات كثيرة جدا، استخدام القوة على الحوار. وقال: "لقد حان الوقت للنظر إلى أنفسنا وكذلك إلى الجانب الآخر- والعمل على مبادرة دبلوماسية تعيدنا إلى الطريق نحو سلام مستدام".

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن