يُناقش المؤلفون بأنّ العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع يعتقدون أنّ الاختلافات في المؤسسات وسياسات الدولة هي أصل الاختلافات الكبيرة في نصيب الفرد من الدخل بين البلدان. ومع ذلك، هناك القليل من الاتفاق حول ما يحدد طبيعة المؤسسات ومواقف الحكومة تجاه التقدم الاقتصادي.
المزيد من الديمقراطية يعني المزيد من الرفاه الاقتصادي والعكس صحيح
ونتيجةً لذلك، يقترحون أنّ التجربة الاستعمارية هي التي تحدد تكوين المؤسسات وتوجهاتها إلى حد كبير: فالمستعمرون الذين استطاعوا استيطان مستعمرة ما لأنها تتفق مع خلفيتهم الفسيولوجية (وربما العرقية)، طوروا مؤسسات شاملة تقوم على حقوق الملكية واقتصاد السوق والرخاء المشترك، في حين أنّ المستعمرين الذين لم يستطيعوا ذلك، طوروا مؤسسات استخراجية كان هدفها الرئيسي استغلال الموارد، والثروة للقلة الحصرية، وسيادة القوة. بالإضافة إلى ذلك، شجعت المؤسسات الشاملة على الاستثمار في رأس المال البشري والمادي، والأهم من ذلك، تضمنت فرض ضوابط وتوازنات على الحكومة وأرست معايير ديمقراطية من أجل الحفاظ على حقوق الناس المكتسبة وحمايتها، بينما المؤسسات الاستخراجية - إلى حد كبير - أوقفت أي تطور سياسي واقتصادي من هذا النوع.
وعلى هذا النحو، تنطوي أطروحة المؤلفين على أمرين مهمين:
أولًا، كما يمكن استشفافه بسهولة، أنها تتناسب مع التجربة الاستعمارية للمؤسسات الشمولية في أميركا الشمالية التي ثبت أنّ تأثيرها على النمو الاقتصادي كان ملحوظًا، والمؤسسات الاستخراجية في أميركا الجنوبية التي أدت إلى أداء اقتصادي كان دون المستوى المطلوب بشكل كبير.
ثانيًا، إن الديمقراطية كمؤسسة سياسية هي عملية كان ولا يزال هدفها هو حرية تشكيل الحكومة وتغييرها لصالح الأغلبية. كما أنها أفضل ما تكون ضمن جمهور واعٍ ومتعلّم، بالإضافة إلى ارتباطها العضوي بالحرية الاقتصادية وسيادة القانون وحماية حقوق الملكية وحرية تكوين الجمعيات. هذه هي مؤسسة الديمقراطية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالازدهار الاقتصادي، وليس الديمقراطية السطحية القائمة على انتخابات شكلية وأنظمة حزبية غير فعالة. والشيء الجيد في هذه الديمقراطية والازدهار الاقتصادي هو أنهما يعززان بعضهما البعض بشكل متبادل: فالمزيد من الديمقراطية يعني المزيد من الرفاه الاقتصادي والعكس صحيح.
الأمر المثير للاهتمام من وجهة نظرنا هو ما إذا كان يمكن تطبيق أطروحة المؤلفين على العالم العربي. نعتقد أنه ممكن. فالعالم العربي كان مستعمرًا من قبل الإمبراطورية العثمانية لمدة أربعة قرون (1518-1918)، وعلى الرغم من أنّ قوة الإمبراطورية في القرن السادس عشر كانت مساوية إن لم تكن أقوى من "الغرب الأوروبي"، إلا أنّ سجلها الاقتصادي والسياسي في العالم العربي طوال فترة الاستعمار كان سيئًا للغاية. فقد كان هدف الإمبراطورية العثمانية انتزاعيًا واستخراجيًا، حيث سعت إلى تعظيم الإيرادات الضريبية من خلال جباة الضرائب المحليين (الأمراء المحليين)، وكان أي تحرك من جانب هؤلاء الأمراء لتأسيس استقلال اقتصادي وسياسي يتم وأده في مهده بالقوة الغاشمة (أمير لبنان فخر الدين الثاني المعني 1572 - 1635 خير مثال).
كانت الإمبراطورية العثمانية كمياه راكدة ولا عجب أن يجد العالم العربي نفسه في نهاية الحرب العالمية الأولى عاجزًا تمامًا
وعلاوة على ذلك، كانت الإمبراطورية تنظر إلى ممتلكاتها العربية على أنها مياهها الراكدة التي لا تكاد تشهد أي تطور فلم تعمل إلى حدّ كبير على تطوير أي من البنية التحتية والتعليم والأسواق. لكن في الحقيقة، كانت الإمبراطورية نفسها كمياه راكدة، إذ كان يشار إليها بحلول منتصف القرن الثامن عشر على أنها "رجل أوروبا المريض"، وكانت أي محاولة من جانبها لإصلاح نفسها من خلال التنظيمات عقيمة تمامًا. لذا فلا عجب أن يجد العالم العربي نفسه في نهاية الحرب العالمية الأولى عاجزًا تمامًا، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، وتحت رحمة القوى الأوروبية الغربية التي مضت بسهولة في تقسيمه وفرض انتدابها الأجنبي عليه (اتفاقية سايكس – بيكو 1916).
كانت هناك محاولتان على الأقل للتخلّص من قبضة العثمانيين: الأولى، عهد محمد علي في مصر من 1805 إلى 1849، والثانية، متصرفية جبل لبنان من 1861 إلى 1914. سنركّز بإيجاز على المحاولة الثانية لأنها تبيّن كيف أنّ التخلّص من الحكم الاستعماري العثماني قد فتح الطريق نحو تطورات اقتصادية حقيقية، إن لم تكن سياسية.
منحت المتصرفية - التي أنشئت بعد الصراع الدموي بين الموارنة والدروز في جبل لبنان عام 1860 - استقلالًا شبه سياسي لجبل لبنان ولكنه استقلال اقتصادي كامل. وكان يحكمه متصرّف معيّن من العثمانيين ومجلس مؤلف من اثني عشر عضوًا لبنانيًا منتخبًا. وعلى القدر نفسه من الأهمية، شهدت هذه الفترة تعميق اقتصاد السوق في جبل لبنان وبيروت مع علاقات دولية ملحوظة: التطور القوي لصناعة الحرير في الجبل، والنهوض السريع لميناء بيروت كأحد الموانئ الرئيسية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وشبكة طرق واسعة إلى الداخل وإلى دمشق. والأهم من ذلك أنها شهدت ازدهار مؤسسات تعليمية ذات مصداقية (خاصة الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف في بيروت) التي كانت مسؤولة إلى حد كبير عن ظهور جو اجتماعي ليبرالي في البلاد، بل ومسؤولة أيضًا عن النهضة التي كانت محسوسة وملموسة في العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر.
انتهت المتصرفية بالطبع في عام 1914 على يد العثمانيين لكن تأثيرها الاقتصادي على الأقل لم ينتهِ، إذ تم نقلها وبلورتها خلال الانتداب الفرنسي وكانت أساس النجاح الاقتصادي الذي تمتعت به البلاد خلال الثلاثين سنة الأولى من استقلالها (1943-1973).
من البديهي أن يُنظر إلى الاستعمار على أنه ضار اقتصاديًا وسياسيًا. إلا أنّ ذلك ليس بالضرورة صحيحًا بالنسبة للحائزين على جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام، لأنّ ذلك يعتمد على نوع المؤسسات التي كرّسها المستعمرون. السؤال الذي يطرح نفسه هو: لو كان الغرب الأوروبي قد استعمر العالم العربي في عام 1516، هل كانت النتيجة ستكون مختلفة عن تلك التي كانت ستؤول إليها الأمور في عهد العثمانيين؟ ربما يكون من المستحيل معرفة الإجابة على هذه الفرضية، لكن ضع في اعتبارك أنّ الغرب الأوروبي بحلول منتصف القرن السابع عشر كان قد تقدم على العثمانيين في التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية بشكل كبير، وكان لا بد أن يكون لذلك تأثير مختلف على العالم العربي عن تأثير الإمبراطورية العثمانية الراكدة.
على أي حال، يمكن للمرء أن يجادل، ربما بشكل مقنع، بأنّ سجل استعمار الغرب منذ أوائل القرن التاسع عشر كان في الواقع مختلطًا وهناك العديد من الأمثلة التي يمكن أن تثبت صحة ذلك. على سبيل المثال، بينما كان الحكم البريطاني للهند سيئًا اقتصاديًا، كان تأثيره السياسي حميدًا حيث بشر بالنظام البرلماني في الهند وجعلها أكبر ديمقراطية في العالم. وللإجابة عن السؤال أعلاه، يمكن القول إنّ استعمار الغرب للعالم العربي كان يمكن أن يكون سيئًا مثل العثمانيين، ولكن أقل سوءًا ربما.
الطائفية في لبنان والسياسات الإقليمية أفسدت معظم المكاسب الاقتصادية التي راكمتها البلاد منذ زمن المتصرفية
في النهاية، وبغض النظر عن حجة المؤلفين الذين نالوا جائزة نوبل، فإنّ عملية الديمقراطية والتقدم الاقتصادي المطرد هي عملية معقدة لا يمكن أن تحددها التجربة الاستعمارية وحدها.
يمكننا أن نرى ذلك بشكل أفضل بالنسبة للعالم العربي بالعودة إلى حالة لبنان. فقد انتهت متصرفية جبل لبنان في العام 1914، ولكن أُعلن مكانها لبنان الكبير من قبل الانتداب الفرنسي في العام 1920. ومع أنّ لبنان الكبير اتسعت مساحته، إلا أنه جلب إلى البلد الجديد طوائف دينية أكثر ومشاكسة لبعضها مما جعل الحكم السليم وعمل الديمقراطية التوافقية أمرًا مستعصيًا على نحو متزايد. وكما لو أنّ الطائفية (السياسية وغيرها) لم تكن كافية، فقد غرق البلد في دوامة من السياسات الإقليمية المدمرة التي جعلته غير مستقر سياسيًا منذ أواخر الخمسينيات من القرن العشرين. والأهم من ذلك أنها أفسدت معظم المكاسب الاقتصادية التي راكمتها البلاد منذ زمن المتصرفية.
ومن هنا فإنّ الرسالة واضحة للعالم العربي: النمو الاقتصادي المطرد والديمقراطية يعتمدان على مجموعة من العوامل، من أبرزها: المؤسسات والحوكمة السليمة، والاستقرار السياسي، والعلاقات الخارجية الحميدة والجغرافيا المناسبة، والانسجام الثقافي والمجتمعي، وبالطبع الاستخدام الفعال للعمالة ورأس المال والتكنولوجيا.
(خاص "عروبة 22")