إنّ هذه الأنا اليوم أصبحت تتعاطى أكثر فأكثر مع قضايا الشأن العام، وتُقبل على مناقشة مواضيعه حتى بأكثر قضاياه حساسية، حيث أصبح أفرادها يميلون أكثر فأكثر إلى التفاعل والحضور الاجتماعي وبناء هويتهم الافتراضية الخاصة بهم (الأفتار)، مستثمرين في ذلك مختلف الآليات التي تتيحها الانترنت من مواقع اجتماعية ومنصات مشاهدة وغيرها.
جيوش إلكترونية وكتائب افتراضية مجنّدة خصيصًا لتعزيز وجهات نظر معينة أو أيديولوجيات أو مصالح ضيقة
هذا التمظهر للأنا العربية اليوم على شبكة الانترنت، باعتباره ذلك الفضاء المتّسم بحرية الرأي والتعبير والنقاش والجدل بين مختلف الأفكار والآراء، دفع كثيرين إلى الاحتفاء به لتجسيده الفضاء العمومي والنقاش العام بالمعنى الهابرماسي، والذي يعدّ العماد الأساس في تجسيد ديموقراطية الساحة العامة كما بنيت وتشكلت بدايةً داخل "الأغورا اليونانية"، باعتباره نقاشًا جدليًا يشتغل وفق الآليات الديمقراطية ويحكمه الحجاج العقلي والبرهان المنطقي الموضوعي وتقبّل التنوع الفكري والاختلاف في الرأي والتعبير.
لكن المتأمّل في حالة الأغورا العربية في عالم الشبكات يفضي إلى عكس ذلك تمامًا، بحيث تحيل أشكال التفاعل والحوار والمناقشة في كثير من الأحيان إلى بلوغ درجات أعلى من الخلاف والتعارض يصل أحيانًا إلى السبّ والقذف والشتم، نتيجة غياب الحوار العقلاني الرصين القائم على تبادل الحجج والإنصات للآخر، وعلى الرغبة الجماعية في البحث عن معايير مشتركة، حيث صرّح عدد من الباحثين أنّ مواقع التواصل الاجتماعي مثلًا ساهمت في تشظي المجتمعات العربية إلى جماعات صغيرة منغلقة على نفسها ومتصارعة ومجتمعة حول أنساق سياسية وفكرية وإيديولوجيات متنافرة، بل نجد أحيانًا مسميات جديدة من الجيوش الإلكترونية والكتائب الافتراضية المجنّدة خصيصًا لتعزيز وجهات نظر معينة أو أيديولوجيات أو مصالح ضيقة والرد على المعارضين والمخالفين، سواء باستدعاء الحجج البرهانية أو الواهية، وتكثيف المشاركة والدفاع والترافع أو الهجوم، وذلك بغرض السيطرة على الرأي العام وتكثيف الرأسمال الشبكي وإعطائه مرئية أكثر لصالح هذه الجهة أو تلك.
كان من نتائج ذلك سيطرة منطق اليقينيّة واحتكار الحقيقة والصواب المطلق لدى معظم فئات الأنا العربية المتدخلة في الحوار والتفاعل الشبكي، بما هو –أي منطق اليقينيّة- ذلك الجدار الواقي الحامي الذي يحول دون اختراق آرائها وأفكارها ومعتقداتها من طرف الآخرية سواء المنتمية للنحن العربية أو الخارجة عنها، بحيث صار النسق الفكري الذي تنتجه هذه الأنا أو يُنتج لها -داخل فضاء الشبكات الذي تجوبه تيارات وآراء وأفكار ويقينيات متعدّدة من التباين والاختلاف بحيث يصعب حصره- غير قادر على حفظ نفسه إلا بيقين أنه النسق الرمزيّ الأفضل والأصوب، "فاليقينيّة آلية جداريّة تعمل باتجاهين، ما داخل الجدار وما خارجه، فما داخل جدراننا الرمزيّة هو الصواب يقينًا، وما خارج جدراننا الرمزيّة هو الخطأ يقينًا" (قاخون).
الأنا العربية لا ترى نتيجة ممكنة للحوار إلا أن "يُقنع" أو "يقهر" بعضها البعض
إنّ سيطرة المطلق على الأنا العربية داخل عالم الشبكات المفتوح، قد حوّلها إلى ذهنية متصلّبة وسهل تحولها إلى مغامرة أصولية عاجزة عن إدراك أهمية الاختلاف والتعدّد واحترام الآخر، وكان من نتائج ذلك أن تحوّلت بوابة النقاش والحوار والتفاعل الشبكية من بوابة تواصليّة إلى بوابة توصيليّة، ومن بوابة تشاركيّة إلى بوابة تغالبيّة، غايتها إدخال "الآخر" إلى النسق الفكري للأنا، سواء عبر القهر الرمزيّ المسمى حوارًا، أو نفي النسق الفكري الآخر إن لم تستطع الأنا تحويله وقهره ليصير جزءًا من نسقها الرمزيّ، وعلى قدر تطرّف الأنا وتمسكّها بيقينها الذي لا يقهر، تتطرّف الآخرية وترى كذلك اليقين الدائم بصواب قولها، وبذلك تصبح الأنا العربية لا ترى نتيجة ممكنة للحوار بين أطرافها إلا أن "يُقنع" أو "يقهر" بعضها البعض ليقول بقولها ويتبنّى مبادئها، الأمر الذي جعل كلّ مجتمع عربي ليس مجتمعًا بسيطًا، "بل مركب اثنيًا ودينيًا ولغويًا، والتفاعل الثقافي بين عناصره ظلّ ضئيلًا" (ساسين).
إن محاولة التحرّر الفكري والسياسي التي سعت إليها الأنا العربية على ساحة الانترنت الشبكية منذ مطلع الألفية الثالثة، جعلتها تصطدم واقعيًا بالكثير من الثوابت التي كانت تتحرّك فيها، وتعيد النظر في ثباتها ومصداقيتها، ومن هذه الثوابت مسألة القدرة على قبول الاختلاف والتعدّد والمعارضة وإطلاق الحرية في القول والفعل تعبيرًا عن الحرية داخل واقع ليس حرًا على حد تعبير "ألبير كامو".
(خاص "عروبة 22")