لا تشمل هذه الهجرة الجماعية، الأطباء بجميع اختصاصاتهم وحسب، بل أيضًا الفئات العاملة في القطاع الصحي: أطباء متخصصون وأساتذة وأفراد من القطاع الشبه الصحي ناهيك عن الطلاب الذين لم يستكملوا دراستهم.
وحسب الاحصائيات الرسمية هاجر خلال السنوات الأخيرة (إلى حدود فبراير/شباط 2024) نحو 4 آلاف طبيب، في الوقت الذي يبلغ عدد الأطباء المسجلين بعمادة الأطباء نحو 29 ألف طبيب وطبيبة، ويغادر تونس سنويًا 80% من الأطباء الشبان حديثي التخرّج، وجهتهم الأساسية دول الاتحاد الأوروبي، وتُعتبر ألمانيا وفرنسا وجهة أولى لهم، تليهما دول الخليج وكندا.
تقف وراء هذه الهجرة النوعية عدّة عوامل متداخلة منها الجاذبة ومنها الطاردة وعلى رأسها الاعتبارات المالية
هاجر هؤلاء دون أن يلتفتوا لحاجة مجتمعاتهم إليهم ودون اعتبار للإمكانيات التي صُرفت لتكوينهم من ميزانية الدولة، إذ يكلّف تكوين طبيب واحد في تونس أكثر من 100 ألف دينار عن السنة الواحدة (نحو 32245,06 دولار أميركي).
تقف وراء هذه الهجرة النوعية عدّة عوامل متداخلة منها الجاذبة ومنها الطاردة وعلى رأسها الاعتبارات المالية التي تتمثّل في تدني رواتب الأطباء وطموحهم إلى الحصول على أجر أفضل. فطبيب الصحة العمومية في تونس يحصل شهريًا على ما بين 1600 و1800 دينار (بين 522 و588 دولارًا)، أمّا الأجر الشهري لطبيب الاختصاص في المستشفيات العمومية بتونس فيصل إلى 1600 دينار (517 دولارًا).
من الأسباب النافرة أيضًا، ظروف العمل غير الملائمة في المؤسّسات الطبية العمومية من حيث الاكتظاظ وارتفاع حالات الإرهاق النفسي والاكتئاب ونقص المعدات الطبية وارتفاع الاعتداءات بالعنف على الإطار الطبي، وذلك بخلاف ظروف العمل في أوروبا التي تبدو أفضل بكل المقاييس بالرغم من الأجور المتدنيّة للطبيب الأجنبي وأساسًا في فرنسا التي تبدو زهيدة (نحو 1500 أورو في فرنسا)، كما تمثّل الرغبة في تطوير المسار العلمي والمهني هاجسًا للبعض خاصّة أمام انسداد المجال في تونس.
أوروبا تحتاج لمليون ونصف المليون طبيب لذلك اعتمدت سياسة "جاذبة" لاستقطاب الأطباء والتقنيين والممرضين الأجانب
ومن العوامل الطاردة كذلك، انتشار البطالة في صفوف الأطباء الجدد وذلك نتيجة الاختلال بين ما توفره الجامعات من شهادات علمية في بعض الاختصاصات، وبين ما تطلبه سوق الشغل الوطنية من حاجيات، غير أنّ بعض الأطباء من الشباب يرفضون العمل في الأرياف وخارج المدن الكبرى، وهذا معطى أكدته وزارة الصحة التي أشارت إلى استدعاء نحو 200 طبيب شاب تخرّج حديثًا للعمل في مستشفيات حكومية، إلّا أنّها فوجئت بعدم تجاوب أغلبية هؤلاء باستثناء ستة أطباء فقط باشروا العمل، في حين فضّل الباقون الهجرة إلى خارج البلاد.
ومن العوامل المساعدة والجاذبة على هجرة الأطباء التونسيين انخفاض حجم العاملين في القطاع الصحي في فرنسا خاصّة، إذ كانت كليات وجامعات الطب في فرنسا تقبل كل عام حوالى 8600 طالب حتى سنة 1972، غير أنّ عدد هؤلاء قد عرف انخفاضًا حادًا بعد نحو عشرين سنة ووصل إلى أدنى مستوى له سنة 1993، أي نحو 3500 طالب كما تم إلغاء سقف المقاعد المخصّصة سنة 2020، الأمر الذي أدى الى انخفاض عدد الأطباء العاملين بنسبة 5.6% بين سنتَي 2012 و2021 ما نتج عنه انخفاض نصيب الفرد من الأطباء في فرنسا من 325 طبيبًا الى 318 طبيبًا لكل 100.000 ساكن (بين 2012 – 2021)، خاصّة مع ارتفاع معدلات الشيخوخة بشكل مزدوج من ناحية شيخوخة الأطباء الذين يصلون إلى مرحلة التقاعد (أكثر من 44% من الأطباء تبلغ أعمارهم أكثر من 55 عامًا)، وشيخوخة السكان من ناحية أخرى ممّا يزيد من الطلب على الرعاية الصحية، وهذا وضعٌ دفع الرئيس الفرنسي إلى اقتراح بقاء الأطباء المتقاعدين في الخدمة، وتشجيعهم على ذلك بإلغاء الاشتراكات التي يدفعونها عادةً وإلغاء سقف العدد الذي كان محددًا لقبول الطلبة في الكليات الطبية.
لقد كشف انتشار وباء "كوفيد 19" افتقار الخدمات الطبية في أغلب الدول الأوروبية، وخاصّة ألمانيا وفرنسا، ولتجاوز هذا العجز اتخذ الاتحاد الأوروبي عدّة إجراءات من ذلك إعلان رئيس الوزراء الفرنسي السابق، غابرييل أتال، في نهاية يناير/كانون الثاني 2024 تعيين مبعوث "مسؤول عن البحث عن أطباء في الخارج"، محاولةٌ منه لتجاوز نقص الأطباء، كما سهّل القانون الفرنسي الجديد استقبال الأطر الطبية وشبه الطبية الأجنبية، وذلك على غرار ما سنّته ألمانيا وبريطانيا.
من المهم البحث عن حلول لتوفير بيئة مهنية ومادية مشجعة للإطار الصحي وشبه الصحّي
برغم ما تعانيه دول الاتحاد الأوروبي من مشاكل في ملف الكفاءات، إلّا أنّه لا يمكن مقارنتها بحاجة تونس كمًّا ونوعًا، باعتبار أنّها تملك القدرة والإمكانيات الذاتية لمعالجة ذاك الخلل وهو أمرٌ تفتقر إليه دول الجنوب ومنها تونس. لذلك لا نعتقد أنّ هذه الهجرة المكثّفة والواسعة للمنتمين لهذا القطاع "بريئة" بل يبدو الأمر كما لو كان خاضعًا لخيار استراتيجي للدول المُستقطبة، إذ بيّنت إحدى الدراسات أنّ القارة الأوروبية لوحدها تحتاج بشكل عاجل لمليون ونصف المليون طبيب، لذلك اعتمدت سياسة "جاذبة" لاستقطاب الأطباء والتقنيين والممرضين الأجانب، وبينهم تونسيون.
تبحث أوروبا وخاصّة فرنسا عن حل مشاكلها على حساب مستعمراتها السابقة. لكن وفي مقابل ذلك يصعب معالجة مسألة هجرة الأطباء التونسيين للخارج بالإشارة إلى الاعتبارات الوطنية، ووصم الأطباء الشباب الذين يبحثون عن حياة أفضل بالخارج بناكري الجميل باعتبار ما صرفت الدولة على تعليمهم وتأطيرهم ثم مغادرتهم البلاد لإفادة دول ومجتمعات أخرى. فعِوض إلقاء تلك التهم المجانية، من المهم البحث عن حلول معقولة لتجاوز هذه المعضلة، من ذلك توفير بيئة مهنية ومادية مشجعة للإطار الصحي وشبه الصحّي ما قد يساعد على تقليص هذه الظاهرة.
(خاص "عروبة 22")