مع هاريس كانت المسألة أسهل، فهي مثل رئيسها جو بايدن جزء لا يتجزأ من مؤسسة الدولة العميقة بل هي متطابقة معها وتكاد تكون مجرد واجهة لاستراتيجية الأمن القومي. وهي إما كانت ستواصل سياسة دعم إسرائيل المطلق بالسلاح وحمايتها من عقاب القانون الدولي أو تطعّمه وترفقه بسيناريو استخدام نموذج باراك أوباما العقابي الخفيف في شهريه الأخيرين عندما عاقب بنيامين نتنياهو على تطاوله عليه في الكونجرس الأمريكي ٢٠١٦ بإعطائه الضوء الأخضر وعدم استخدام الفيتو الذي سمح بصدور القرار ٢٣٣٤ الذي يجعل كل استيطانها في الضفة والقدس غير شرعي ويجب إزالته.
مع ترامب الوضع أصعب بكثير، فهو من خارج المؤسسة (Outsider) بل متمرد عليها، وهو يسعى لإحداث تغييرات في بنية النظام السياسي الأمريكي وتوسيع سلطات الرئيس بما يتفق مع أيديولوجيته اليمينية المتطرفة. ومن ثم فعنصر المفاجأة وعدم التوقع كبير في حالته. يفاقم من ذلك حقيقة أنه ربما كان أكثر ساكن في البيت الأبيض بعد الحرب العالمية الثانية يشهد تعاظمًا في دور شخصية الرئيس وخلفيته المهنية والأيديولوجية وحتى عقده النفسية في عملية صنع القرار.
الشرق الأوسط أكثر المناطق عرضة لاندفاعه وسيكون العرب الأكثر عرضة لضغوطه القاسية وتسوياته الظالمة
لقد أظهرت بجلاء فترة رئاسته الأولى ٢٠١٦/٢٠٢٠ كيف أنّ خلفيته المهنية، كرجل أعمال ومطور عقاري، حوّلت السياسة إلى مجرد صفقات رابحة أو خاسرة. وأثرت خلفيته الأيديولوجية اليمينية بوضوح على مواقفه الداعمة للمتطرفين اليمينيين أحزابًا أو أشخاصًا سواء في إسرائيل أو في أوروبا وكادت تهدد وجود حلف "الناتو". كما صبغت طبيعته الشخصية وصفاته - في الغرور والتمحور حول الذات وحب السيطرة والرغبة في التمايز والرغبة في دخول التاريخ وكراهيته لمن ينتقده ويعارضه من معاونيه قبل خصومه - صبغت بوضوح، قراراته السياسية داخليًا وخارجيًا بما في ذلك القيام بانعطافات مفاجئة وغير متوقعة تصل لمستوى سيناريوهات "البجعة السوداء" ومنها الحوار غير المسبوق مع زعيم كوريا الشمالية.
لكننا سنحاول هنا التركيز قدر الإمكان موضوعيًا على:
- المحددات الحاكمة لسلوك ترامب المستقبلي في الشرق الأوسط، مع الاعتراف بأنّ بعضها هو جزء من المحددات والفرص والقيود التي ستؤثر في سلوكه في السياسة الخارجية عمومًا.
- ومن ثم نستنتج من هذه المحددات السيناريوهات الشرق أوسطية المتوقعة من ترامب خاصة في ملفات ومسارح الحروب الثلاث الرئيسية المفتوحة، وهي غزة ولبنان والصراع الإيراني الإسرائيلي المباشر.
محددات سلوك ترامب في الشرق الأوسط:
١- الفوز الساحق لترامب والسيطرة المؤكدة على الكونجرس يعطيانه تفويضًا واسعًا لإحداث تغييرات جذرية في السياسة الداخلية وتغييرات أقل ولكن مهمة في السياسة الخارجية، هذا التفويض شبه المطلق لترامب سيزيد من جموحه الشخصي وسيجعل الشرق الأوسط أكثر المناطق عرضة لاندفاعه وتصوراته المبسطة والكارثية لتسوية نزاعات شديدة التعقيد وسيكون العرب بالتحديد - مقارنةً بـالإيرانيين والأتراك والأكراد - القومية الأكثر عرضة لضغوطه القاسية وتسوياته الظالمة المهدرة لحقوقهم.
لم تعد واشنطن قادرة على فرض إرادتها كاملة مع وجود فاعلين أثبتوا قدرتهم على قلب الخطط الأمريكية
٢- البناء على تراثه الشخصي وتحويل تراث بايدن لمكاسب له: يعتقد ترامب أنه في فترته الأولى، كان الرئيس الأمريكي الأكثر إنجازًا في الشرق الأوسط منذ كارتر، ويسعى جاهدًا للبناء على ما يعتبره إنجازًا. هذا الإنجاز في نظره كان واحدًا من أكبر الكوارث للقضية الفلسطينية والأمن العربي الجماعي. كان في جوهره انقلابًا استراتيجيًا في نهج واشنطن منذ ١٩٧٣ في "إدارة" الصراع العربي - الإسرائيلي إلى نهج "حسم" هذا الصراع بقرارات صادمة كنقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة واعتبار الجولان المحتل أراضي إسرائيلية والمساهمة في النشاط الاستيطاني في الضفة والتخلي عن "حل الدولتين".
الإنجاز الأكبر من منظوره كان ما عُرف بـ"صفقة القرن" وتوريط ٤ دول عربية باتفاقيات التطبيع الإبراهيمي والتخلي عن مبدأ الأرض مقابل السلام. وكما فعل كارتر الديمقراطي الذي حصد التسوية التي زرعها الجمهوري نيكسون، فإنّ ترامب الجمهوري يسعى لحصد ثمار ما زرعه الديمقراطي بايدن في مشروع "ممر بهارات" للتطبيع الشامل بين إسرائيل والسعودية الذي جمّده "طوفان الأقصى".
٣- خبرته الشخصية مع النظام العربي الرسمي: لا تخرج نظرة ترامب لحلفاء واشنطن العرب عن مفهوم "الشيخ والخيمة" الذي اتبعه كيسنجر مع السادات وحصل من خلاله على كل التنازلات وملخصها أنّ الدول العربية ما زالت محكومة من قبل "شيخ القبيلة" اسمه رئيس أو ملك، وإنك إن تفاهمت مع الشيخ فإنّ باقي القبيلة (الشعب) ستتبعه. يضيف ترامب إلى ذلك خبرة تقسم العالم العربي لمجموعتين، دول غنية تطيع واشنطن لأنها تحميها وتحمي ثرواتها، والمجموعة الثانية هي الدول المتوسطة والفقيرة التي لعب بعضها في السابق أدوارًا قيادية في الإقليم. هذه الدول تم فيها بناء طبقة حاكمة ترتبط مصالحها بالمركز الرأسمالي الغربي وتم إغراق هذه الدول في الديون ودخلت هذه المجموعة أيضًا بيت الطاعة الأمريكي.
٤- الفاعلون الإقليميون: أحد العوامل الحاكمة التي ستواجه ترامب أنّ الشرق الساكن الذي خضع له ولـ"صفقة القرن" دون مقاومة ليس نفسه بعد "طوفان الأقصى". لم تعد واشنطن قادرة على فرض إرادتها كاملة مع وجود فاعلين إقليميين (إيران) وفاعلين من غير الدول (مثل "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد" و"الحوثيين") أثبتوا قدرتهم على قلب الخطط الأمريكية وربما صنعوا مفاجأة تتحداه في الفترة التي تسبق تنصيبه رسميًا.
موسكو قد تمنح طهران النسخة المتطورة لـ"إس إس ٤٠٠" وبكين لا تستطيع أن تقبل بهزيمة نقطة ارتكاز "الحرير والطريق"
٥- توجه موسكو، وبكين - بدرجة أٍقل -، لمفارقة سلوك البقاء في الهامش والانخراط أكثر في نزاعات المنطقة: يمكن القول إنّ الضربات المباشرة بين إيران وإسرائيل هي التي دفعت بهذا المحدد في وجه ترامب. موسكو كانت حاضرة وغائبة. وكذلك هو حال الصين التي شغلتها أزمتها الاقتصادية واستنزاف واشنطن لها في قضية تايوان.
الموقف تغيّر بعد وصول التهديد إلى إيران الحليف الشرق أوسطي الرئيسي في محور المقاومة العالمي فوجدنا الروس الذين تباطأوا في عقد اتفاقية التحالف الاستراتيجي مع طهران يعلنون مؤخرًا أنّ المعاهدة ستوقع قريبًا. الروس أمدوا إيران بمعلومات أقمار صناعية واستخبارات عن الهجوم الإسرائيلي الأخير. وهناك معلومات أنّ موسكو قد تمنح طهران النسخة المتطورة لنظام الدفاع الجوي "إس إس ٤٠٠".
بالنسبة إلى بكين التي لم تدع فرصة وإلا وقالت إنّ حليفها الاستراتيجي الأول في المنطقة هو إيران، لا تستطيع أن تقبل بهزيمة حليفها الذي يُعتبر أكبر مورد للنفط للصين ونقطة ارتكاز في مشروع "الحرير والطريق".
هذه المحددات تترك ترامب والمنطقة مع سيناريوهات معقدة قد لا تخلو من مفاجآت نستعرضها في الجزء الثاني.
(خاص "عروبة 22")