بصمات

"الحَمِيّة الوطنية" والدعوة لتفعيل المواطَنة

كرّس "رفاعة رافع الطهطاوي" (1801 ــ 1873) حياته من أجل التثوير الفكري والتجديد الثقافي، وهو استطاع من خلال مساهماته الفكرية ومشروعاته الثقافية العديدة، أن يضع حجر الأساس التاريخي لبُنية الفكر المصري ومنظومة الثقافة المصرية الحديثة. لذا أدرك كل من قرأ أفكار "الطهطاوي" ودرس مجهودات الرجل المؤسّسية قدر الرجل التأسيسي. وفي المحصلة، أجمع الجميع على اختلاف مشاربهم الفكرية على أن "رفاعة رافع الطهطاوي" هو أبو الفكر المصري الحديث ومؤسس النهضة الثقافية للدولة المصرية الوطنية الحديثة.

انشغل الطهطاوي بحلمَيْن هما تغيير الواقع المجتمعي من جهة، والتجديد المعرفي من جهة أخرى، لذا سعى حثيثًا لاكتشاف سبل التمدّن الحضاري والعمران للمصريين عبر الثقافة والتعليم ومؤسسات الحداثة المختلفة. ولم يحصر الطهطاوي - كما جاء في مقدمة مجموعة أعماله الكاملة التي جمعها محمد عمارة - "جهوده في نطاق الفكر الذي تتميّز به حركة المثقفين بالمعنى الخاص والضيّق، وإنما فهِم الثقافة بمعناها العام، وقدّم لشعبه وأمّته زادًا ثقافيًا يغطي احتياجاتها تقريبًا، في عملية التطوير والتغيير الجارية لمختلف جوانب الحياة... حياة الأمّة بطبقاتها وفئاتها...".

ما "الحميّة الوطنية" إلا استنفار لهمم الناس ودفعها إلى العمل من أجل الصالح العام

وتؤكد القراءة لمجمل أفكار الطهطاوي، والاطّلاع على حصيلة جهوده المؤسّسية إلى أي مدى قد نجح الرجل في أن يحقق حلم التغيير/التجديد، لتحرير المصريين من عصر الظلام المملوكي - العثماني؛ حسب تعبير محمد عمارة، ذلك العصر الذي امتدّ لستة قرون وأوصل مصر إلى "حالة أوّلية طبيعية" حسب وصف الطهطاوي، إذ اتسم بالتخلّف والفوضى (بالمعنى الهوبزي، نسبةً إلى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز). ومن ثم عُني بصياغة رؤيةٍ لبلوغ "التمدّن الحضاري" الوطني في شتّى نواحي حياة المواطنين السياسية والاجتماعية والتربوية والعمرانية والاقتصادية والإدارية والدينية والعلمية والقانونية، فاستحقّ أن يصفه أمير الشعراء أحمد شوقي بأنّ "معارفه أيقظت مصر".

في هذا السياق، كان الطهطاوي حريصًا على التأكيد أنّ "الرغبة في تمدين الوطن والعمل على تجديد شبابه"، لا بد وأن تنطلق من قاعدة بعث ما أسماه "الحَميّة الوطنية". وما "الحميّة الوطنية" إلا استنفار لهمم الناس ودفعها إلى العمل من أجل الصالح - الخير العام؛ أو بلغة الطهطاوي: "تعظيم المنافع العامة" من أجل أن يكون الوطن "محلًا للسعادة المشتركة" للجميع من دون تمييز. تلك "الحميّة" التي من شأنها تجاوز أزمنة الإقصاء من المشاركة في "تعظيم المنافع العامة" للوطن.

إن "الحميّة الوطنية"؛ بالمعنى الذي طرحه "الطهطاوي، هي عمليًا دعوة لممارسة المواطَنة والعمل الدؤوب من دون توقف والحركة المستمرة التي لا سقف لها بين جميع أعضاء هذا الوطن أو مواطنيه - من دون تمييز - وذلك حسب الجزء الأول من أعمال الطهطاوي الكاملة، وذلك من أجل "التعاون على تحسين الوطن - وطن هؤلاء المواطنين ومكان سعادتهم المشتركة - وتكميل نظامه، فيما يخصّ شرف الوطن، وإعظامه، وغناه، وثروته. لأنّ الغنى إنما يحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية"، آخذًا في الاعتبار أنّ "الوطني الحق"، لدى الطهطاوي، هو من "يفدي وطنه بجميع منافع نفسه ويخدمه ببذل جميع ما يملك ويفديه بروحه".

يؤكد الطهطاوي أنّ العملية المواطنية لا يمكن أن تؤتي ثمارها ما لم تقم على المساواة

مُحصِّلة ما سبق؛ بانطلاقة "الحميّة الوطنية" وممارسة المواطَنة، يتحقق ما يلي:

أولًا: يحقّق المواطن الحرية، ويتمتع بالمنافع العمومية فيما يحتاج إليه الإنسان في معاشه وكسبه وتحصيل سعادته، وذلك من خلال منظومة حقوق وحريات متكاملة.

ثانيًا: إلزام الحاكم "بإسعاد البلاد والعباد"، بما يعود بالثروة والغنى، وتحسين الحال، وتنعيم البال، على عموم الجمعية" (المجتمع من دون تمييز أو تفرقة).

ثالثًا: تأمين العدالة والمساواة "للعباد" (للمواطنين) على اختلافهم.

وحول العدالة والمساواة؛ يلفت الطهطاوي النظر إلى أنّ العدالة هي في إسعاد المواطنين والتي تحتاج إلى قوانين حسنة وعادلة لإراحتهم وإسعادهم في بلادهم، وتكون سببًا في حبهم لأوطانهم... فالعدالة تبعث المواطن على الاستقامة في أقواله وأفعاله، وأن ينتصف لنفسه ولغيره، ونشير في هذا المقام إلى دور الطهطاوي الرائد في تجديد الفكر المصري التشريعي وعصرنته. أما بالنسبة إلى المساواة؛ فيؤكد الطهطاوي أنّ العملية المواطنية لا يمكن أن تؤتي ثمارها ما لم تقم على المساواة. وفي هذا المقام، نجمل بعضًا مما قاله الطهطاوي حول المساواة: "... جميع الناس مشاركون في ذواتهم وصفاتهم، فكل منهم ذو عينين وأذنين ويدين وشم وذوق ولمس، وكل منهم يحتاج إلى المعاش، فبهذا كانوا جميعًا في مادة الحياة الدنيا على حد سواء، ولهم حق واحد في استعمال المواد التي تصون حياتهم، فهم مستوون (متساوون) في ذلك، ولا رجحان لبعضهم على بعض في ميزان العيشة". ويترتب على ما سبق، حسب الطهطاوي، بأنه لن يكون هناك "فارق بين الشريف والمشروف، والرئيس المرؤوس... إلخ". ولا يفوت "المؤسس - الطهطاوي" أن يؤكد على "الرابطة الوطنية بين المصريين" التي تجبّ أي رابطة أخرى دينية، أو قبلية، أو عشائرية، أو طائفية، أو عرقية... إلخ.

من دون المواطَنة لن "تحرز" المجتمعات التحرر والتقدم بأبعاده الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية

وفي الختام، "بالحميّة الوطنية والمواطَنة الفاعلة"؛ يحرص المواطنون، ويلتزم الحكام، على تحقيق التعظيم العادل للمنافع للجميع من دون تمييز، وتوفير الراحة (السعادة) لكل المواطنين من دون تفرقة، ومنع حدوث أي فعل من أفعال القهر المجتمعي للمواطنين. وبالنتيجة تكون "الدولة راسخة القواعد، لا يعتريها الخلل من بين يديها ولا من خلفها، فتقوى على الدفاع عن بلادها، ووطنها، وتدفع الجور، وهكذا تكون الأمّة القوية الشوكة في الداخل والخارج، مهابة عند الجميع".

هكذا تحدث الطهطاوي، قبل 150 سنة، عن "الحميّة الوطنية" ــ المواطَنة، في كتابَيْه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية"، و"المرشد الأمين للبنات والبنين"، اللذين يعتبران صالحيْن للاستلهام. فمن دون الحميّة الوطنية - المواطَنة لن "تحرز" الأمم - الدول - المجتمعات التحرر من الأوتوقراطية والثيوقراطية والاستغلال والاستتباع... ومن ثم التقدم بأبعاده الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن