تاريخيًا كانت جغرافية المنطقة المفتوحة على البحر وغير الوعرة نسبيًا، والحجم الصغير أو المتوسط لأغلب الأقطار العربية مع غياب العمق الجغرافي لمعظمها، تعني أنه من دون وحدة تستند إلى روح قومية، فإن أي قطر عربي هو غير قادر في أغلب الأحوال على الدفاع عن نفسه أمام الإمبراطوريات والقوى الكبرى.
وعندما نشأت الحضارات الأولى في العالم في المنطقة قبل نحو خمسة آلاف عام، كانت المنطقة تحوي نسبةً كبيرة من ثروات العالم، ويمر فيها حجم كبير من التجارة الدولية، الأمر الذي خلق حالة من الثراء ساهمت في تأسيس دول المنطقة القديمة العظيمة الفرعونية والأكادية والأشورية والفينيقية والسبئية والقرطاجية وغيرها، لكن مع ظهور الإمبراطورية المعولمة الأولى، مثل الفارسية والإغريقية ثم الرومانية (بعد أن توحدت هذه الإمبراطوريات الثلاث)، فشلت حضارات المنطقة القديمة المتشظّية في الحفاظ على استقلالها.
غياب وحدة اتحادية عربية تجمع القدرات الاقتصادية والعسكرية في بوتقة واحدة جعل الدول العربية مطمعاً للآخرين
وقد يكون أبرز تجلٍّ لهذه المعادلة، حقيقة أن إيران القديمة كانت خاضعة للحكم الأشوري عندما كانت مقسّمة، لكن تشرذم وتقاتل حضارات المنطقة، على الرغم من أن أصولها واحدة مثل الإيرانيين (ولا سيما بلاد الرافدين)، سمح لإيران بعد توحّدها تحت قيادة "فارس" بهزيمة دول المنطقة الأعرق في القرن السادس قبل الميلاد وإخضاعها لأول مرة لاستعمار خارجي طويل الأمد أعقبه مجيء الاستعماريْن الإغريقي والروماني ليتحول سكان المنطقة من سِدنة الحضارة وسادة أوطانهم إلى رعايا من الدرجة الثالثة لفارس وأثينا وروما وبيزنطة لمدة تقارب الـ1200 عام.
إلى أن جاء الفتح العربي موحِّداً المنطقة ومعيداً السلطة فيها لأهلها مما جعل الثروات تبقى في المنطقة ولم تعد تذهب لحواضر الإمبراطوريات الخارجية، وعادت المنطقة مجدّدًا لتصبح مُنتِجةً للحضارة، وعندما ضعفت آخر الدول العربية العظمى ألا وهي الخلافة العباسية، قاست المنطقة من الهيمنة التركية والفارسية والحملات الصليبية والغزو المغولي الوحشي وحروب الاسترداد الإسبانية، ثم الدولة العثمانية، وعندما ضعفت الأخيرة من دون وجود بديل عربي، سقطت المنطقة في براثن الاستعمار الأوروبي الحديث والاستيطان الصهيوني.
وحتى بعد الاستقلال، أدّى إخفاق التحديث وغياب وحدة اتحادية تتضمّن حدًّا أدنى من الدفاع المشترك والوحدة الاقتصادية، ليس فقط إلى توسّع المشروع الإسرائيلي على حساب دول الجوار العربية بهدف الاستيلاء على الأرض والماء الضروريَيْن لهذا المشروع، بل إلى معاناة أغلب الدول العربية من تعرض ثرواتها للأطماع الخارجية، كما يظهر في حالة إيران بالنسبة لدول الخليج، وإثيوبيا بالنسبة للسودان والصومال وجيبوتي، إذ تصر أديس أبابا على تقليص حصص مصر والسودان في النيل، وتسيطر جزئيًا على منطقة الفشقة السودانية الغنية زراعياً وتجاهر بأطماعها في إقليم أرض الصومال الذي تحكمه حكومة انفصالية، إضافةً الى الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلة والجزر المغربية، والغزو الأميركي للعراق، والذي كان أحد أسبابه المعلنة السيطرة على النفط.
كما أن هناك التدخلات الغربية والتركية والإيرانية والروسية في ليبيا وسوريا، علاوةً على المشروعيْن الانفصالييْن الكردييْن في العراق وسوريا المدعومَيْن من الغرب.
وحتى على الرغم من التحالف الخليجي الوثيق مع الولايات المتحدة، لم يُخفِ بعض الساسة الأميركيين رغبتهم أحياناً في السيطرة على نفط دول الخليج مثلما نسب لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر إثر الحظر العربي للنفط خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
قدسية حدود وثروات وسيادة كل دولة في إطار الاتحاد المقترح هو أمر موجود في الدستور الأميركي
في كل الحالات السابقة، فإن غياب وحدة اتحادية عربية تجمع القدرات الاقتصادية والعسكرية العربية في بوتقة واحدة، جعل الدول العربية مطمعاً للآخرين، على الرغم من أن مجموع القوة العسكرية والاقتصادية العربية مجتمعة أكبر من دول الجوار بشكل وازن، مما يُحبط بدرجة كبيرة أطماع حتى الدول الكبرى مثل الدول الأوروبية الرئيسية وروسيا والولايات المتحدة.
فالعالم العربي من حيث القوة العسكرية التقليدية، يملك ثاني أكبر ترسانة في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية إذ يملك نحو 1700 طائرة مقاتلة من الجيل الرابع بعدد يفوق بفارق ملحوظ الصين وروسيا، وينطبق الأمر عينه على الدبابات وغيرها من الأسلحة. إضافةً إلى أن وجود شكل من أشكال الدفاع العربي المشترك والوحدة الاتحادية سيُمكّن الدول العربية من بناء تكنولوجيتها العسكرية الخاصة لتلحق بالعديد من القوى المتوسطة التي قطعت أشواطاً في هذا المسار مثل الهند وباكستان وإيران وتركيا.
إن مثل هذه الوحدة التي تؤكد على الدفاع العربي الموحّد والسوق العربية المشتركة، مع حفاظ كل دولة على سيادتها وثروتها وأراضيها مع توجيه فوائض النفط من الاستثمار الخارجي المهدّد بالتقلبات الغربية إلى الداخل العربي ستكون معادلة مفيدة للجميع (win-win situation)، إذ ستستفيد الدول العربية غير الغنية أو ما يطلق عليها "عرب الماء"، من هذه الاستثمارات لتحقيق التنمية، بينما تستفيد الدول العربية الغنية "عرب النفط"، من توظيف أموالها في استثمارات أكثر أمناً وربحية، كما ستكون جزءًا من كيان قوي وكبير يحميها من الأطماع الخارجية.
وحتى الأطماع العربية التي تقلق عادةً دول الخليج سوف تختفي لأنّ الدول العربية غير الغنية سيكون ازدهار دول الخليج من مصلحتها، كما ستكون العلاقة منظمة عبر ميثاق عربي مشترك يؤكد على قدسية حدود وثروات وسيادة كل دولة في إطار الاتحاد المقترح، وهو أمر موجود في الدستور الأميركي الذي يؤكد بصرامة على حقوق الولايات في مواجهة المركز.
إن العالم العربي يشهد حجمًا هائلًا من التوغّلات الخارجية المهينة في الكثير من دوله المضطربة، والتي جعلت المنطقة حاليًا ساحة لأكبر تدخلات خارجية على وجه الأرض، تتورّط فيها مروحة واسعة من القوى العظمى والإقليمية بما في ذلك دولة تعاني من الفقر المدقع مثل إثيوبيا، الأمر الذي جعل المنطقة أكبر طاردٍ للاجئين في العالم بشكل لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
في عالم عاد إليه قانون الغاب بقوة لم تعُد الوحدة حلمًا للقوميين بل أصبحت ضرورةً للبقاء
إن الفراغ بطبيعته يجب أن يُـملأ، وإذا لم يُـملأ داخليًا، فستظهر الأطماع الخارجية، ليس فقط بسبب ثروات المنطقة والإيديولوجيات الاستعلائية ضد العرب، بل كذلك لأن موقع المنطقة أخطر من أن يُترك للفراغ من قبل القوى الإقليمية والدولية لأن تأثيرات الفوضى في هذه المنطقة المهمة تصل الى العالم كله سواء عبر الهجرة أو اضطرابات النقل وتقلبات إمدادات النفط إضافةً لخطر الإرهاب.
الوضع الحالي، يجعل من الصعب على أي قُطْر عربي أن يحقق أمنه الذاتي أو تنميته الاقتصادية منفردًا، بل يجعل ضمان المواطن العربي لأمنه الشخصي عسيرًا.
وكما تبيّن للأوروبيين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ثم صعود دونالد ترامب للسلطة، فلا بديل عن شكل من أشكال الاتحاد الضروري لتنمية الاقتصاد ولحماية الأرض والثروات العربية، ففي عالم عاد إليه قانون الغاب بقوة، لم تعُد الوحدة حلمًا للقوميين بل أصبحت ضرورةً للبقاء.
(خاص "عروبة 22")