في البداية؛ نجحت نظريات غوبلز في شلّ تفكير الشعب الألماني وحشده حول أفكار أدولف هتلر، لكنها لم تصمد وسقطت في النهاية، فمن الممكن أن تتأثّر الناس لبعض الوقت بسيل الشائعات والدعاية، لكن عندما يفرض الواقع نفسه تُعيد الشعوب النظر فيما جرى فتنقُده وتبدأ رحلة البحث عن الخلاص.
أحكم غوبلز الرقابة على الصحف والإذاعة في بلاده والبلاد التي سيطروا عليها، لكن عملية السيطرة الصارمة تهاوت مع الوقت، ولم تفد الرقابة النازيين شيئًا عندما بدأت الخسائر تلاحقهم، فتحوّلت دعاياتهم عن النصر والإنجازات إلى محلّ للسخرية من قبل الشعوب المحتلّة.
في نهاية عام 1940 ومع فشل الألمان في ضرب إنجلترا، أرادت إحدى الصحف الدنماركية نقل خبر إغارة لسلاح الجو البريطاني على مصنع كان يعمل لحساب الألمان، فمنعت سلطات الاحتلال نشر الخبر، وبعد يومين ذكرت إدارة الأخبار الألمانية أنّ الإغارة التي حدثت فشلت وأنّ كل ما أصابه الطيارون الإنجليز بقذائفهم كان "بقرة واحدة".
انتهزت الصحيفة الدنماركية إذاعة خبر الغارة، وحاولت أن تبيّن لجمهورها مدى الضرر الحقيقي الذي نجم عنها، على خلاف ما ادعته الدعاية النازية، فنشرت الخبر كما صاغته السلطات الألمانية، ثم أضافت التعليق الآتي: "ولا تزال هذه البقرة تحترق!"
انتحر منظّر التضليل الدعائي... وظلّت أنظمة تتبنّى نظرياته وتُطوّرها
شاعت قصة "البقرة التي لا تزال تحترق" في الدنمارك وباقي الدولة المحتلة، وتحوّلت إلى مادة للسخرية من النازيين الذين ظلّوا في فترة الحرب الأولى يشيعون أنهم سيقهرون الإنجليز ويغزون بلادهم.
وبعد أن زُهقت ملايين الأرواح ودُمّرت آلاف المدن في العالم، انتهت الحرب بخسارة مذلّة للألمان، وانتحر منظّر التضليل الدعائي غوبلز مع زوجته في مشهد لم يخلُ من دراما مأساوية، ورغم ذلك ظلّت أنظمة تتبنّى نظرياته وتُطوّرها بما يخدم بقاءها واستمرارها.
أسّست الحكومات المستبدّة، ومنها معظم حكوماتنا العربية، أجهزة ومؤسسات أوكلت لها عملية صناعة التضليل عبر وسائل إعلامها. وبدعوى الحفاظ على الاستقرار عمدت تلك الأجهزة إلى إخفاء الحقائق والتلاعب بالأخبار، ليتمّ تصوير الفشل باعتباره نجاحًا والفساد والإهدار المتعمّد على أنه إنجاز غير مسبوق.
مع عصر الفضائيات المفتوحة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي بات من الصعب خداع الجماهير على طريقة غوبلز وخلفائه، فالأخبار والمعلومات، الصحيح منها والمبتور، متاحة على قارعة "السوشيال ميديا"، وما تبثّه قنوات التضليل من أخبار مغلوطة لم تعد لتصمد دقائق حتى يكشف الرأي العام زيفها.
قبل أيام احتفت الحكومة المصرية بحصول البلاد على المرتبة 121 في مؤشر الازدهار العالمي لعام 2023 الذي يُصدره معهد ليجاتوم الإنجليزي، "متقدمةً 3 مراكز عن العام الماضي".
الناس لن تنطلي عليهم حيل تدوير التقارير ونشر الحقائق المُقتطعة من سياقها
تسابقت منصات الأخبار المصرية في نشر الخبر نقلًا عن صفحة مركز معلومات مجلس الوزراء دون تدقيق، وتعاملت معه باعتباره "طفرة كبيرة، ودليلًا على الجهود التي تقوم بها الدولة في مختلف القطاعات لتحقيق التقدّم وتحسين معيشة المواطنين".
حتى تاريخه لا يعرف أحد سرّ احتفاء الحكومة المصرية بالتقرير المشار إليه، رغم أنه صدر في مارس الماضي، التفسير الوحيد الذي بدا منطقيًا أنّ السلطة في مصر والتي شبّهها البعض بـ"التاجر المفلس الذي يبحث في جيوبه القديمة" تحاول أن تدحض تقولات المواطنين الذين أصابهم الظلام والحرّ بخيبة أمل، فلم تجد سوى ذاك التقرير الصادر عن جهة دولية موثوق بها لتثبت للناس أنها ماضية في الطريق الصحيح وأنّ ما تروّجه عن إنجازها بتحسين جودة حياة الناس محلّ تقدير مؤسسات دولية معتبرة.
مؤشر الازدهار الذي احتفت به الحكومة المصرية وقدّمته على أنه شهادة "جودة وضمان"، يغطي 12 محورًا لتقييم 167 دولة حول العالم، اختار مركز معلومات مجلس الوزراء 3 محاور فقط حصلت مصر فيها على ترتيب جيّد، وهي "البنية التحتية والوصول إلى السوق، بيئة الأعمال، والبيئة الاستثمارية"، فيما تجاهل المركز باقي المحاور التي حلّت فيها مصر في ترتيب متأخّر مثل "الحريات الشخصية، السلام والأمن، الحوكمة، الرأس المال الاجتماعي، وجودة الاقتصاد" وغيرها.
انتقى مركز معلومات مجلس الوزراء ما يشير إلى التقدّم لكنه أغفل باقي المؤشرات، أراد كعادته أن يقدّم الحقيقة منقوصة، إلا أنّ روّاد "السوشيال ميديا" وصفحات تدقيق الأخبار سرعان ما كشفوا التضليل، أما الناس فلن تنطلي عليهم حيل تدوير التقارير ونشر الحقائق المُقتطعة من سياقها، فما يمرون به من أزمات كافٍ للحكم على حكومتهم.
درسان لم يصلا إلى حكوماتنا بعد: خداع الجماهير صار مستحيلًا ولا استقرار وازدهار بلا حرّية
من التقارير الدولية التي لا تقف أمامها الحكومة المصرية ولا تقترب منها وسائل إعلامها، مؤشر الحرية والازدهار الذي يصدره المجلس الأطلسي، والذي ربط مُعدّوه بين الحرية والازدهار، فالبلدان الأكثر حرية تكون أكثر ازدهارًا... و"التحسينات في الحرية ستؤدي -بمرور الوقت- إلى ازدهار أكبر وأكثر ديمومة".
تقرير المجلس عن العام الماضي، والذي وضع مصر في المركز 145 من إجمالي 174 دولة، ذهب إلى أنّ الأنظمة "الاستبدادية" لا تحقّق الرخاء لشعوبها، فلا رخاء بدون حرية إذ "ترتبط القيم العالية للحرية بقيم عالية من الرخاء، وترتبط القيم المنخفضة للحرية بقيم منخفضة من الرخاء".
درسان لم يصلا إلى حكوماتنا بعد أو وصلا لكنها لا تبصر ولا تعي، الأول؛ هو أنّ خداع الجماهير وتضليلها صار مستحيلًا في ظلّ تدفّق المعلومات وتدافعها في فضاء الإنترنت، والثاني؛ أنه لا استقرار ولا ازدهار دون حرية بما يترتّب عليها من ممارسات وإجراءات كالشفافية والرقابة والمحاسبة واحترام إرادة الشعوب وتداول السلطة.
(خاص "عروبة 22")