يُعدّ الاستيطان والتهويد أهم مرتكزات الحركة الصهيونية في الاستيلاء على القدس، وقد اتّبعت السلطات الصهيونية عدة آليات لممارسة التهويد، نستعرضها فيما يلي:
طمس الآثار والحضارة العربية والإسلامية
هو أسلوب شيطاني من أساليب التحريف والتزييف في المدينة، ويتمثّل في إزالة وطمس آثار القرى العربية واستخدام حجارتها في بناء المستوطنات اليهودية، حيث لجأت الحركة الصهيونية وعصاباتها إلى تدمير كامل القرى المقدسية في حرب 1948، وكل من يسير في قرى القدس من المصرارة - باب العمود حتى المالحة ومستشفى هداسا يرى بشكل واضح أن كثيرًا من الأسوار إنما بُنيت من حجارة القرى العربية، حيث نجد ذلك في مساحات الجامعة العبرية ومستشفى هداسا ومنطقة محنيه يهودا والمالحة وغيرها. وتتجنّب بلدية القدس الصهيونية البناء بالأسمنت المسلّح لأسباب جمالية ولكي يُخيّل للزائر أن هذا السور بُني قبل مئات السنين ولكي يعملوا على إعادة استخدام هذه الآثار في تركيب تاريخ يهودي مزوّر.
لجأ الصهاينة إلى أسلوب طمس المعالم الدينية وتهويدها بطريقة منظّمة ومتوالية
ونشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية يوم الجمعة 6/7/2007 في ملحقها الأسبوعي تقريرًا صحافيًّا يتضمن اعترافًا بقيام المؤسسة الإسرائيلية وعسكرها خلال السنوات الأولى للنكبة الفلسطينية عام 1948 بهدم وتفجير عشرات المساجد في القرى العربية المدمّرة والمهجّرة ضمن سياسة مُمنهجة لمحو التاريخ العربي والإسلامي للبلاد وبأوامر مباشرة من قادة الجيش وبتأييد كامل من "دافيد بن غوريون". ويذكر معدّ التقرير الصحافي "ميرون رابوبورت" أن قيادة الجيش الإسرائيلي اعتمدت سياسة هدم وتفجير المساجد في أعوام 1950م ضمن مسعى لتغييب التاريخ العربي والإسلامي في البلاد. ويؤكد رابوبورت أن بعض هذه المساجد هُدِمت بأوامر مباشرة من قائد المنطقة الجنوبية عام 1950 المدعو "موشيه ديان"، من بينها مسجد عسقلان، وآخر في يبنا، وثالث في أسدود، وثلاثتها مساجد تاريخية قديمة، بعضها يعود بناؤه إلى ما قبل ألف عام. وكشف الصحافي ميرون رابوبورت عن وثيقة إسرائيلية تؤكد أن الهدم المذكور تم بأوامر من "موشيه ديان".
كما لجأ الصهاينة إلى أسلوب طمس المعالم الدينية وتهويدها بطريقة منظّمة ومتوالية؛ بداية من إزالة وتهويد حي المغاربة في العاشر من حزيران 1967 وترحيل أهله ومسجد حي الشرف في 1967 أيضًا، وقد يعمدون إلى تحويل المسجد إلى كنيس يهودي (Synagogue) كما في مسجد النبي داود، حيث أقدمت السلطات الصهيونية على إحداث تغيير في معالم المسجد، إلى جانب إزالتها للكتابات القرآنية والزخارف وسرقة التحف الفنية والأثرية التي كانت موجودة فيه.
وهناك نمط آخر من أنماط التزوير والطمس، وهي أن يعمد الاحتلال إلى تحويل جزء من المسجد إلى كنيس (Synagogue) كما حدث في مسجد النبي صموئيل شمال غرب القدس، وكما حدث ويحدث في مسجد خليل الرحمن بعد المجزرة. وقد تلجأ سلطات الاحتلال إلى إزالة المسجد أو المقام نهائيًّا كما حدث في قرية صرعة المدمّرة غرب القدس.
الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك
تتعرّض مدينة القدس بصفة عامة والمسجد الأقصى المبارك بصفة خاصة لاعتداءات يومية من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ومن أشهر هذه الاعتداءات السيطرة على حائط البراق وتحويله إلى ما يسمى بحائط المبكى. وعن جريمة إسرائيل في حق حائط البراق، يقول المهندس رائف نجم مستشار مركز توثيق وصيانة آثار القدس: "إن حائط البراق يشكل الجزء الجنوبي الغربي من جدار الحرم القدسي الشريف بطول نحو (47 مترًا)، وارتفاع نحو (17 مترًا)، ولم يكن في وقت من الأوقات جزءًا من الهيكل اليهودي المزعوم". كما تقول الموسوعة اليهودية: "إن مصادر المدراش (شروق التوراة) تقول إن هذا الحائط لم يكن موقع عبادة عند اليهود حتى القرن السادس عشر الميلادي".
كشف عالم الآثار الإسرائيلي "مائير بن دوف" النقاب عن أنه لا توجد آثار لما يُسمّى بجبل الهيكل تحت المسجد الأقصى
ويقرّ بذلك عالم الآثار الإسرائيلي "إسرائيل فلنكشتاين" من جامعة تل أبيب المعروف "بأبي الآثار"، حيث شكّك في وجود أي صلة لليهود بالقدس، جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة "جيروزاليم ريبورت" الإسرائيلية - عدد شهر أغسطس/آب سنة 2000م.
كما أن الحائط ليس "مكانًا مقدسًا" عند كل اليهود، فاليهود الأرثوذكس بصفة عامة وأتباع فرقة "ناتوري كارتا" (Karta Neturei) بصفة خاصة لا يرتادونه. أما اليهود الأكثر ارتيادًا له فهم أتباع فرقة "القبالاه" (Kabbalah) الذين لا يرتادونه لأنه مكان مقدّس، بل لأنه قريب من هيكلهم المزعوم، ولأنهم يعتقدون أنّ الصلاة تصل إلى الله بسرعة أعلى كلما قرُب مكان إقامتها من الهيكل المزعوم. كما أنّ الحائط ليس بناءً حتى يكون مكانًا للصلاة، ولا يمكن إدراجه ضمن أنماط مباني العبادة اليهودية الأربعة التي مورست فيها العبادة اليهودية على مدى تاريخها، وهي: المذبح، وخيمة الاجتماع، والهيكل المزعوم، والكنيس. فالثلاثة الأول انتهى دورها منذ سنة 70م. وأما الرابع، الكنيس، فهو النمط المتبقّي كبناء تمارس فيه طقوس العبادة اليهودية المستحدثة.
وفي اجتماع علماء الآثار الذي عُقد في مدينة "سان فرانسيسكو" بالولايات المتحدة الأميركية في نهاية عام 1997م، قال البروفيسور الإسرائيلي (دافيد أوسيشكين) من جامعة تل أبيب، الذي شارك قبل 55 عامًا في كشف أحد قصور الملك سليمان، "إنه غيَّر رأيه، وهو الآن يتفق مع تفسير فنكلشتاين". بل وصل الأمر بفنكلشتاين إلى أن قال: "مقابل الادعاء المعروف والقائل بأنّ كل ما ورد في التوراة يقف على أرضٍ صلبة، فإنّ هذا الأمر الآن ليس على هذا النحو، وأنا أعلم أنني زرعت بذور الشك".
كما فجّر عالم الآثار الإسرائيلي "مائير بن دوف" قنبلة دوّى صداها في المنطقة، حيث كشف النقاب عن أنه لا توجد آثار لما يُسمّى بجبل الهيكل تحت المسجد الأقصى.
أما الدكتورة "كاثلين كينيون" مديرة مدرسة الآثار البريطانية في القدس وأستاذة علم الآثار في جامعة أكسفورد فتقول: "إنّ عملية الحفريات الإسرائيلية التي تجريها إسرائيل حول الحرم القدسي لهيَ أبشع حفريات لتدمير التاريخ القديم، وإنّ إتلاف البنية الإسلامية التي بُنيت في القرون الوسطى جريمة كبرى، ولا يُعقل أن تُشوّه الآثار بمثل هذه الحفريات".
كل الشهادات تنسف المزاعم اليهودية وستظل كلمة التاريخ والآثار هي العليا مهما مرّ من زمان
وكان التسامح الإسلامي هو الذي مكّن اليهود من الصلاة أمام هذا الحائط، وتكرّرت محاولات اليهود للاستيلاء عليه في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين إلى أن وقعت ثورة البراق في أغسطس/آب 1929 وقُتل فيها العشرات من العرب واليهود، وأدت الأحداث إلى تشكيل لجنة دولية لتحديد حقوق العرب واليهود في حائط البراق، وكانت هذه اللجنة برئاسة وزير خارجية سويدي سابق وعضوية سويسري وآخر هولندي، ووضعت اللجنة تقريرها في عام 1930. يقول التقرير: "إنّ للمسلمين وحدهم ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءًا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضًا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلّة المعروفة بحارة المغاربة، لكونه موقوفًا حسب أحكام الشريعة الإسلامية".
كل تلك الشهادات تنسف المزاعم اليهودية في حقها بتهويد القدس وستظل كلمة التاريخ وكلمة الآثار هي العليا مهما مرّ من زمان وسنين.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")