اقتصاد ومال

جيوسياسة البحار والمحيطات (1/2)

أصدرت مجلة "ديبلوماسي" (Diplomatie) الفرنسيّة عددًا خاصًّا حول جيوسياسة البحر والمحيطات، وذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، شارك فيه عدة خبراء في مجال الدراسات الجيوسياسية والجيوستراتيجية المتعلّقة بالبحار. وتعتبر المقالات المنشورة في هذا العدد، رصدًا لمختلف التحوّلات الجيوسياسية، كما تعكس إلى حدٍّ كبير هواجس بعض القوى الأوروبيّة وعلى الأخصّ فرنسا.

جيوسياسة البحار والمحيطات (1/2)

أشار رئيس تحرير المجلة، توماس دولاج (Thomas Delage)، في افتتاحيّة العدد، إلى تحدّي اليابان للصين، حيث مرّت سفينة حرب يابانية من مضيق تايوان بتاريخ 26 سبتمبر/أيلول 2024. كما مرّت سفن حربية من أستراليا ونيوزيلندا من المضيق عينه بعد ساعات، على الرغم من تحذيرات الصين التي تعتبر المضيق ضمن مجالها البحري. وصرّح مدير الدفاع التايواني بأنّه تمّ رصد حوالى 72 طائرة و8 سفن حربيّة صينيّة حول تايوان.

البحار العمود الفقري الاقتصادي العالمي للمواصلات

ولذلك، يعتبر صاحب الافتتاحيّة أنّ البحر أصبح مسرحًا جديدًا للنزاعات والتوتّر بين الدول. فقد انخرطت الولايات المتحدة الأميركية في حرب بحريّة ضد الحوثيين في البحر الأحمر، وهي الحرب "الأكثر كثافة"، التي تطلقها أميركا بعد الحرب العالميّة الثانيّة. وباعتبار البحار العمود الفقري الاقتصادي العالمي للمواصلات بين الدول، فإنّ هناك صراعًا كذلك على الموارد الطبيعيّة الموجودة في البحر، مثل البترول والغاز والمعادن النادرة، وهو ما يُشكّل تهديدًا للأمن العالمي.

يلاحظ أيضًا وجود صراع في المياه البحرية في آسيا بين الصين وتايوان واليابان وكذلك الفيليبين؛ كما هناك بوادر صراع بحري في بحر البلطيق، بالإضافة الى البحر الأحمر ومنطقة البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود.

تناول العدد مجموعةً من المحاور والموضوعات، ومن ذلك محورٌ متعلقٌ بالفرص والمخاطر وآخر حول الصراعات البحرية ثم محورٌ ثالث حول الانتصار في البحر. وقد افتُتح العدد بمقالٍ مهمّ حول دور الفيليبين في المحيط الهندي - الهادي، حيث قام كاتب المقال بتحليل الطموح الصيني في المنطقة، مما استدعى من الفيليبين عقد اتفاقيات مع اليابان في يوليو/تموز 2024. وهو تعاقدٌ يسمح للبلدَيْن معًا بتسهيل عملية الولوج الى أراضيهما للتدريبات المشتركة والمناورات، وهو ما يُطلق عليه اتفاق الولوج المشترك، ويندرج ضمن سياق ظهور تحدّيات أمنيّة جديدة تواجهها الفيليبين.

كما تمّ توقيع اتفاقٍ ثلاثي بين اليابان وأميركا والفيليبين في أبريل/نيسان 2024، للتعاون والتصدّي لمختلف التحدّيات، موازاةً مع تشكيل تحالف بين أميركا والفيليبين وأستراليا واليابان. ووقّعت الفيليبين كذلك اتفاقًا للدفاع المشترك مع بريطانيا وكندا في شهر مارس/آذار 2024، واتفاقيّة حول التعاون في مجال النقل البحري مع نيوزيلندا، واتفاقية تعاون في المجال العسكري مع فرنسا سيتمّ الشروع في تنفيذها في شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل.

وتسعى الفيليبين للحفاظ على نوع من التوازن الجيوسياسي مع الصين وأميركا والاستفادة من الصراع بينهما؛ لكن طلب الفيليبين من أميركا بناء أربع قواعد عسكريّة جديدة، إضافة إلى القواعد الخمس الموجودة، ساهم إلى حدّ ما في زيادة التوتّر بين الفيليبين والصين، لكن العلاقات الاقتصاديّة بينهما ما زالت مهمّة، وتسعى الفيليبين كذلك إلى إبرام اتفاقيّات للتنقيب عن البترول والغاز مع الصين والانخراط في مبادرة طريق الحرير. وتروم هذه السياسة تجنّب تفاقم الصراع في منطقة بحر الصين.

"الاقتصاد الأزرق" يشمل أنشطة ومجالات عدّة من قبيل الموانئ والنقل البحري وتسليم البضائع والأوْراش البحريّة 

وفي محور "فرص ومخاطر"، يتعرّض كتّاب المقالات إلى مواضيع ذات صلة باقتصاد البحر وأزمة اليمن وتأثيرها في النقل البحري، والصراع على الموارد والثروات البحريّة ودور القوة البحريّة في حماية سلاسل التوريد والإمداد العالميّة.

ويُشير كاتب مقال "البحر هو العمود الفقري للاقتصاد"، إلى أنّ "الاقتصاد الأزرق" الذي يشمل أنشطة ومجالات عدّة، من قبيل الموانئ والنقل البحري وتسليم البضائع والأوْراش البحريّة، يواجه عدّة تحديات، مضيفًا أنّ مستقبل الاقتصاد الفرنسي مرتبطٌ بـ"الاقتصاد الأزرق" ممّا يتعيّن رصد وفهم مختلف التحدّيات الحاليّة والمقبلة.

هناك من جهة، التحدّيات الجيوسياسية والأمنيّة والبيئيّة التي تؤثر في المجالات التجاريّة مثل التوتّر في اليمن والقرصنة البحرية. وهناك تحدّيات خفيّة لها صلة بسيادة الدول، مثل مشكلة مراقبة وتدبير موضوع "الكابل البحري" الذي يمتد حوالى 1200 كيلومتر. فحماية هذا "الكابل" تُشكّل هاجسًا للدول والشركات العالميّة الكبرى، وخاصة تجمّع "الغافام" الذي يضم "غوغل" و"فيسبوك" وباقي عمالقة الشركات الرقمية، إضافة إلى شركة "هواوي" الصينيّة، وبالتالي أمن الاتصالات والإنترنت. وهناك تحدّيات مرتبطة بالحفاظ على البيئة البحرية وإشكالية التغيّر المناخي والصيد المكثّف وحماية الأنواع البحريّة؛ وهو مجالٌ للاتفاقيّات والمعاهدات، ولكن فيه تضاربٌ لمصالح الدول.

تواجه الدول الأوروبيّة مشكلة تحديث قطاع صناعات السفن التي تعاني من المنافسة الآسيويّة

ومن الفرص المتاحة في البحار، نجد التحوّل الطاقي نحو الطاقات البديلة، ويُعتبر "الاقتصاد الأزرق" بالنسبة إلى فرنسا ركيزةً أساسيّةً للاقتصاد، لكن باريس تواجه عدّة تحدّيات منها ما هو تقليدي مثل القرصنة والصيد غير القانوني، وبسبب اتّساع المنطقة الاقتصادية الخالصة لفرنسا، فإنّها تواجه مشكلة مراقبة المجال البحري وحمايته، من كل الممارسات غير القانونية ومنها تجارة المخدرات.

وتواجه الدول الأوروبيّة عمومًا مشكلة تحديث قطاع صناعات السفن التي تعاني من المنافسة الآسيويّة بسبب عامل "الإغراق الاجتماعي"، كما تواجه فرنسا مشكلة تأهيل الموارد البشريّة في القطاع البحري؛ وكذلك معضلة تمويل مشاريع الطاقات البديلة المرتبطة بالبحر، فكافّة قطاعات "الاقتصاد الأزرق" بحاجة إلى موارد ماليّة ضخمة.

يضيف محرّر المقال إلى التطورات التي يعرفها، النقل البحري وتدبير أهم الشركات العالمية المحتكرة للمجال، فهناك شركة MSC السويسرية، التي تستحوذ على نسبة 19.9% وتملك 851 سفينة، ثم شركة MAERSK الدنماركية التي لها 14.38% وتملك 711 سفينة، ثم في المرتبة الثالثة شركة CGM الفرنسيّة التي تستحوذ على 12.6% وتملك 651 سفينة. وفي المرتبة الرابعة، نجد شركة GOSCO الصينية التي تأسّست في 2016 وتستحوذ على 10.78% وتملك 508 سفنٍ، وفي المرتبة الخامسة نجد شركة Hapag-LLoyd الألمانيّة ولها 7.3% وتملك 291 سفينة.

أمّا في المرتبة السادسة فهناك شركة ONE اليابانية التي تأسّست عام 2017 ولها 6.3% وتملك 244 سفينة، بينما نجد في المرتبة السابعة شركة Evergreen line التايوانية ولها حصّة 5.6% وتملك 221 سفينة، وفي المرتبة الثامنة هناك شركة HMM من كوريا الجنوبية ولها 2.99% وتملك 79 سفينة، وفي المرتبة التاسعة شركة ZIM الإسرائيلية، وتأسّست سنة 1945، ولها 2.5% وتملك 131 سفينة، وأخيرًا، نجد في المرتبة العاشرة شركة YANG MING التايوانية ولها 2.5% وتملك 93 سفينة.

إنّها الشركات الكبرى المحتكرة والمهيمنة على النقل البحري والملاحة التجاريّة، ويلاحظ أنّ الدول الأوروبيّة حاضرة في المراتب الثلاث الأولى، والمرتبة الخامسة، بينما هناك غياب للشركات الأميركية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن