لم يكن "الحق في الاختلاف"، في الأزمنة المتقدمة حقًا مشروعًا على نحو ما نعرفه اليوم وبالكيفية التي تم التعبير بها عن هذا الحق في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحسب ما أقرته الأعراف بين معظم الأمم والشعوب.
الحضارة العربية الإسلامية تمثّل الصورة البهية المشرقة لثقافة "الاختلاف" ولشيوع "الثقافة الحوارية"
وفي عبارة جامعة نقول بأنّ الاعتراف للغير المخالف بالحق في اعتقاد ما يراه من رأي مغاير لما يقول به المالكون بأعنة السلطة الفعلية، في مختلف تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد تأتى نتيجة صراع مرير، عسير وطويل على النحو الذي يتجلى به ذلك الحق حاليًا في الأدب السياسي الحديث ضمن قيم الحداثة.
نعم، إنّ "الحق في الاختلاف" سمة يتميّز بها الفكر الحديث عن كل أصناف الفكر المتقدمة عليه، وربما كان البعض مُصرًا على القول بأنّ الإقرار بهذا الحق والعمل بموجبه هو أحد السمات الكبرى التي تميّز الحداثة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. غير أنه يتعيّن علينا أن نضيف من قبيل التنويه والتذكير معًا، بأنّ ما ننعته بالثقافة الحوارية هو في الواقع صفة تلازم كل الحضارات الإنسانية العظمى، كما أنّ الحضارة العربية الإسلامية تمثّل الصورة البهية المشرقة لثقافة "الاختلاف" ولشيوع "الثقافة الحوارية".
غرضنا الأساسي في حديث اليوم أن ننبه إلى صحة هده الفكرة وأهميتها معًا من جهة، وغرضنا من جهة أخرى، هو التنبيه إلى أنّ الوجود العربي الإسلامي المعاصر، وذلك وجه المفارقة، تمثيل للصورة النقيض لغياب الثقافة الحوارية التي ظلت حالًا مميّزًا للفكر العربي الإسلامي في كل مراحل نموه وأطواره بينما أخذ هذا الفكر في الابتعاد عنها تدريجيًا، قبل أن يغدو متنكرًا لها ثم عدوًا مهاجمًا لها كما نقف على ذلك من قول صريح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر في العديد من تجلياته وأنماط حضوره.
لا غرو إن علم الكلام، على نحو ما نجده عند متكلمة الإسلام، يمثّل الصورة العليا للانتصار لمذهب من المذاهب، وليس يكون ذلك إلا بتسفيه الرأي الذي يُعتبر مخالفًا. وبالتالي فإنّ المتكلم يتصدى لرأي الخصم فيجعل من إبطال قوله هدفًا يسعى عليه ما دام لا يستقيم، عند علماء الكلام، القول ويكون الاطمئنان إلى حجيته إلا بإظهار فساد الرأي الذي يقرر المتكلم أنه نقيض ما يقول به. ذلك هو الجدل الكلامي، وتلك إحدى القواعد الكلامية التي يجري العمل بها. وقد يفاجأ العديدون اليوم متى علموا أنّ المتكلمين داخل الممارسة الكلامية وفي عنفوان المعارك المذهبية يلتزمون جميعهم بقاعدة كلامية هي وجوب التمييز بين التخطئة والتكفير من جانب أول والتمييز، من جانب ثانٍ، بين الحكم العقلي والحكم الشرعي.
فالحكم العقلي هو الحكم المنطقي مجردًا، ومثاله الأكثر وضوحًا عند متكلمة الإسلام هو أنّ الخمر مسكر. وأما الحكم الشرعي فيقضي بأنّ الخمر حرام.
واستنتاجًا من ذلك يصح القول إنّ التخطئة شيء، والتكفير شيء آخر. يقول الشهرستاني: إن الخصم وإن خطأناه (أي حكمنا على قوله بالخطأ في معنى مخالفة الحكم العقلي) فنحن لا نخرجه من ملة الإسلام. والمعنى الواضح في هذه القاعدة الكلامية هو إقرار الحق في المغايرة والاختلاف. بل إنّ متكلمة الإسلام كانوا يذهبون أبعد من ذلك، إذ كانت قواعد المناظرة الكلامية=الجدل والمعركة الإيديولوجية تقضي وجوب البدء باستعادة قول الخصم وبسط الحجج التي يأتي بها قبل الشروع في عمل تقويضها واحدة تلو الأخرى، بغية إظهار فسادها وبالتالي إثبات حجية الرأي المخالف لها، ويكون في استطاعة القارئ أن يتعرّف على رأي القول الكلامي المخالف لما يأتي به المتكلم من خلال ذلك.
لقد كانت الأمانة العلمية عند أهل ذلك الزمان مبدأ لا هوادة فيه، وكان ذلك في أوج اشتداد المعارك المذهبية بين متكلمة الإسلام.
هل من سبيل للمقارنة بين ذلك وما نجد عليه حال أهل الإسلام اليوم من الخلط الشنيع بين التخطئة وبين التكفير؟
أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين هم أولئك الذين يذهب بهم الغلو إلى الخلط بين الحكم العقلي والحكم الشرعي
لا يصح في الإسلام الحكم بتكفير شخص أو أصحاب مذهب ما إلا متى كان يجاهر بما يعتبر كفرًا صراحًا (تحريف القرآن الكريم، الكذب الصريح المتعمد على النبي، اعتبار الناطق بالشهادتين كافرًا متى ظهرت منه مخالفة لما يقول به مسلم آخر).
الحق أنّ أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين اليوم هم أولئك الذين يذهب بهم الغلو (كما في العبارة القديمة) أو التطرف (كما نقول في لغتنا اليوم) إلى الخلط الشديد بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، وإلى اعتبار كل من كان مخالفًا لنا في الرأي والمذهب كافرًا وإن كان ملتزمًا بالإرادة الصلبة التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصورته المثلى النطق بالشهادتين.
أليس الأخذ بالثقافة الحوارية، عند العرب والمسلمين، يقوم في صلب المقدميتن الكبيرتين عند متكلمة الإسلام زمن ارتفاع قدر الحضارة العربية الإسلامية: التمييز بين الحكم العقلي والحكم الشرعي، من جهة، والتمييز، من جهة ثانية، ما بين التخطئة والتكفير.
(خاص "عروبة 22")