شكّلت الأوقاف الخيريّة في عصور عزِّها الباب الذّهبي لازدهار العلوم في مدن العرب، وهي الفكرة التي يمكن استعادتها في عصرنا هذا لتكون القاعدة الصّلبة لبعث معاهد العلم في بلادنا، بروحٍ جديدة توفّر مساحةً من التفكير الحرّ الذي يناقش ويحلّل ويبدع في مُناخٍ من الهدوء والراحة النّفسيّة.
وعلى الرّغم من أنّ مفهوم العمل الخيري قائم لم يندثِر، إلا أنه لم يعُد ثقافةً شائعة، وهو ما نحتاجه بشكلٍ حتمي في لحظةٍ أصبح الإنفاق على العلم مُكلفًا، ويحتاج إلى كل جهود المخلصين والمانحين، لكن ليس على شكل هِبات، بل في إطار مؤسّسي يأخذ من تجربة الوقف الخيري ويبني عليها.
النماذج التاريخيّة من الكثرة حتى أنّ فكرة الاختيار من بينها للعرض تبدو مرهِقة، لكن سنكتفي هنا برصد نماذج تدلّل على أهمية الأوقاف في نموّ الحياة العِلميّة في بلاد العرب في قرونٍ خَلَت.
نموذج الأوقاف العلمية انتشر من بلاد العرب إلى بلاد الغرب التي طوّرته وأصبح رُكنًا أساسيًّا في النهضة العلميّة الغربيّة
بدايةً لدينا نموذج دار الحكمة التي بناها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في قلب القاهرة المعزّية نهاية القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي، والتي خصّها بمجموعة من الأوقاف الضخمة، مكّنتها من التزوّد بمكتبةٍ غنيّة بالكتب، وفتح أبوابها للقرّاء والفلكيّين والنحويّين وأصحاب اللّغة والأطبّاء، لكي يمارسوا البحث العلمي في هدوء وسلام. كما فتحت الدّار أحد أقسامها للقراءة العامّة لمن يريد؛ سواء لقراءة الكتب أو نسخها أو التعلّم، مع تخصيص بعض الأموال الموقوفة على دار الحكمة لشراء الأحبار والأقلام والورق والمحابر التي يحتاجها من يتردّد على هذه القلعة العلميّة.
إذا انتقلنا إلى بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، لوجدنا أنفسنا أمام افتتاح مهيب للمدرسة النظاميّة في دار السلام، كجزءٍ من مشروع ضخم لوزير السلاجقة الأشهر نظام الملك الحسن بن علي الطّوسي، الذي أسّس العديد من المدارس النظاميّة في العديد من المدن، وإن ظلّت أشهرها الخاصة بعاصمة الخلافة، وقامت هذه المدارس بدورها العلمي بفضل الأوقاف السخيّة التي خُصِّصت لها.
وانتقلت الفكرة من العراق إلى بلاد الشّام التي عرفت هذا النوع من المؤسّسات العلميّة بفضل سخاء أوقاف الزنكيّين والأيوبيّين، ويُذكر للسلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي أنّه خصّص أوقافه لبناء البيمارستان النّوري الذي ظلّ قلعةً علميّة وطبّية ومن محاسن دمشق.
وفي القاهرة لم يختلف الوضع؛ فبعد أكثر من قرن من بناء البيمارستان النّوري، جاء الدور على البيمارستان المنصوري في المعزّية، والذي بناه السلطان المنصور قلاوون وخصّه بأوقافٍ ضخمة، ولا تزال الوثيقة الوقفيّة محفوظة حتى يومنا هذا تكشف لنا عن الدور الذي لعبته الأوقاف في حياتنا العلميّة، ويكفي أن نشير هنا إلى أنّ العالم الكبير ابن النفيس عاش في البيمارستان المنصوري، في مُناخ ساعده على الإبداع وإجراء أبحاثه واكتشافاته الفذّة وعلى رأسها اكتشاف الدورة الدمويّة الصغرى.
هذه النماذج على روعتها غيضٌ من فيض، فالأوقاف على المؤسّسات العلميّة ظاهرة لم تتوقف عند السلاطين والأمراء بل أصبحت ثقافة شعوب، والعديد من الأوقاف العلميّة جاءت من رجال دولة وفقهاء وتجار ونساء من طبقاتٍ مختلفة من المجتمع، وشكّلت غطاءً لتوفير الدّعم المادّي لحياة علميّة، وهي تجربة غنيّة بالنماذج المشرقة التي ساعدت في فترات تاريخيّة على توفير الدعم للعلم والعلماء، وهو أمر انتشر من بلاد العرب وانتقل إلى أوروبا وبلاد الغرب التي طوّرت هذا النموذج وأصبح رُكنًا أساسيًّا في النهضة العلميّة الغربيّة، وهو ما يعني إمكانيّة الاستفادة من تطوّر نظريّات إدارة الأوقاف في الغرب وإعادة استخدامها عربيًّا.
العلم يحتاج إلى المال والمال لا يتوفّر إلا بإعادة العمل الوقفي الخيري إلى الواجهة
إنّ استعادة فلسفة الوقف الخيري والأهلي في المجتمعات العربيّة ضروريّة جدًّا في مجال البحث العلمي، الذي يحتاج إلى رأس مال ضخم مدعوم بحريّة حركة، ولا يتوفّر هذا إلا في مال الوقف الذي يوفّر لمؤسّسات تحكمها قواعد إدارة رشيدة، الفرصة في توفير بيئة علميّة للباحثين بعيدًا عن إكراهات السّياسة وتدخّلاتها. ولا ننسى أنّ جامعة القاهرة هي واحدة من أعرق الجامعات العربيّة وأكثرها شهرة بدأت في مطلع القرن العشرين كجامعة أهليّة من تبرّعات المحسنين، فالعلم يحتاج إلى المال، والمال لا يتوفّر إلا بإعادة العمل الوقفي الخيري إلى الواجهة.
(خاص "عروبة 22")