أظهرت دراسات أجرتها الأمم المتّحدة والوكالة التّونسية لحماية وتهيئة الشريط الساحلي أنّ منسوب مياه البحر الأبيض المتوسّط في ارتفاعٍ مستمر، وأنّ جزيرة "قرقنة" ستكون الأكثر تأثّرًا بهذا الخطر، إذ رجّحت الدّراسات أن تغمر المياه مساحاتٍ كبرى من الجزيرة بحلول سنة 2030.
جزيرة "قرقنة" (في الجنوب) هي أرخبيل يقع قبالة الساحل التّونسي، وتتكوّن من جزيرتَيْن رئيسيّتَيْن و12 جزيرة غير مأهولة. ويمتدّ هذا الأرخبيل لمسافة 30 كيلومترًا، وبعرض خمسة كيلومترات. وهي جزيرة مسطّحة إذ لا يعلو جزؤها الأكبر عن مستوى سطح البحر إلا بخمسة أمتار. وفي حال ثبوت التوقّعات فإنها ستكون أولى جزر البحر الأبيض المتوسّط التي ستغمرها المياه تمامًا وتغرق بالكامل بسبب تغيّرات المناخ.
وحسب أهالي الجزيرة فإنّ تأثيرات تغيّرات المناخ بدأت تظهر لهم في السنوات الأخيرة وخاصّة سنة 2022 عندما ارتفع منسوب المياه بشكلٍ كبير حتى بلغت مياه البحر المنازل والشوارع والبساتين في مشهد لم تشهد الجزيرة مثله من قبل.
وليست جزيرة "قرقنة" وحدها المهدّدة بالغرق بمياه البحر، هناك عدّة مناطق ساحليّة في محافظات المهديّة وسوسة والحمامات ونابل وبنزرت ستكون بدورها مهدّدة بالخطر عينه فضلًا عن جزيرة "جربة"، بل إنّ هناك جزرًا مثل جزيرة "قوريا" بمحافظة المنستير ستغرق بالكامل في غضون سنواتٍ قريبة، حسب مهدي بالحاج، مدير مرصد الشريط الساحلي بوكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي في تونس.
وتوقّعت دراسات أن تغمر مياه البحر جزيرة "جربة" بنسبة 11 بالمئة وأرخبيل "قرقنة" بنسبة 45 بالمئة بحلول العام 2100 في حال عدم وضع الدّولة التونسيّة استراتيجيّة واضحة وناجعة وفعّالة من دون تأخير للتصدّي لتداعيات تغيّر المناخ وتغيير الأساليب الحاليّة والسابقة في التعاطي مع هذه الظاهرة التي تجتاح العالم.
ويقول مهدي بالحاج لـ"عروبة 22" إنّ "الوضع سيكون خطيرًا في السواحل التونسيّة وبخاصة في بعض الجزر بعد عشر سنوات، وأكثر خطورةً في سنة 2050". ويضيف: "صحيح أنّ الحلول الوقائيّة متاحة وممكنة لكنّها مكلفة، وبعضها استعجالي كوضع شريط صخري على السواحل يقدَّر ارتفاعه ما بين متر ومترَيْن حسب درجة انخفاض المنطقة الساحليّة، وحلول أخرى تحتاج إمكاناتٍ كبيرة ووقتًا أطول هي مشاريع دولة ضخمة ومن بينها إحداث جزر اصطناعية بعد ردم البحر كما تفعل ذلك عدة دول مهدّدة مثل تونس بأن تغمرها مياه البحر"، مشيرًا إلى أنّ "تونس بصدد وضع بعض التّدابير والبرامج من المتوقّع أن تكون قادرة على مجابهة هذا الطارئ الذي يفرضه عامل تغيّر المناخ الذي بات يؤثر في كل العالم".
ويخشى الخبراء من تبعات هذا الخطر على بعض القطاعات الحيويّة كالفلاحة والسياحة والصيد البحري، إذ سيتسبّب ارتفاع منسوب مياه البحر على اليابسة في ارتفاع درجة ملوحة التربة أو ما يسمى بتسبُّخ أراضي الجزر، وبالتالي تصبح تدريجيًا غير صالحة للفلاحة، في حين ستهدّد مياه البحر في هذه الحال أيضًا الفنادق التي ستكون هي الأخرى مهدّدة بأن تغمرها مياه البحر ما سيؤثّر سلبًا في النشاط السياحي في هذه المناطق، ولا سيما أنه نشاط رئيسي. وهذا ما تؤكّده دراسة علميّة أعدّتها وزارة البيئة التونسيّة التي أكدت أنّ ارتفاع مستوى البحر بـ50 سنتيمترًا سيُكبِّد البلاد خسائر اقتصادية كبيرة في مختلف القطاعات منها 3.6 مليارات دينار (مليار دولار) في قطاع السياحة وحده. كما توقّعت دراسة أخرى أن يفقد قطاع السياحة ما يقارب 1000 فرصة عمل سنويًا.
وتأتي هذه التوقّعات المتشائمة في ظل عدم تسليط الدولة جهودها من أجل استباق حدوث هذا الخطر وإيجاد حلول ناجعة تحدّ من الخسائر على الأقل وتحدّ من الأثر السلبي لتغيّرات المناخ في المناطق الساحلية وخاصة في الجزر التي أكّدت عدّة تقارير ودراسات أنها مهدّدة جدًّا بالغرق.
لكن السلطات في تونس لا يبدو أنها تتّجه للتعاطي مع هذا الأثر الخطير لتغيّر المناخ بجدّية، إذ تواجه المشاريع المطروحة في هذا الشأن التعطيل المتعمّد على غرار مشروع حماية الشريط الساحلي بالضاحية الشمالية للعاصمة تونس (قمرت حلق الوادي)، حيث تم رصد ميزانيته منذ سنة 2010 مع الرئيس الأسبق الرّاحل زين العابدين بن علي لكنه دُفن بعد الثورة ولم تعمل أي حكومة على مدار الـ14 سنة الماضية على إعادة إحيائه على الرغم من تحذيرات الخبراء، فضلًا عن مشاريع أخرى يطول ذكرها، أو سوء إنجاز برامج حماية السواحل.
واتّجهت بعض البلديات لوضع كميّات كبيرة من الحواجز الصخريّة والجدران لحماية الشريط الساحلي على مسافات طويلة ولتكون حاجزًا يحمي الطرقات والمنازل والمنشآت من أمواج البحر، لكن العديد منها لم يصمد وانهار بعضها سريعًا، وذلك لأنّ بناء إنشاءات حماية السواحل تستعمل في بعض الأحيان مخلّفات البناء وهي غير مناسبة وتُفاقم الوضع بدل حلّه. وهذا ما يفسّر انهيار تلك الحواجز من صخور وجدران مع ارتفاع منسوب مياه البحر وسرعة الرياح. كما أنّ الاستخراج غير القانوني للرّمل من الشواطئ القليلة في بعض الجزر، وخصوصًا جزيرة "قرقنة"، يفاقم الوضع بدل الحدّ من خطورته.. لأنه يتسبّب في تراجع الخطّ الساحلي.
(خاص "عروبة 22")