بصمات

عرب بلا عربيّة!

بمناسبة مرور عامٍ على تأسيس "مركز الحبتور للأبحاث"، عقد المركز يوم ١٩ أكتوبر/تشرين الأول الماضي نَدوةً بعنوان "عرب بلا عربيّة!". وكما هو واضح فإنّ العنوان صادم، وبالمثل أيضًا العنوان الفرعي للنَدوة وهو التالي "هل يهدّد فناء اللّغة العربيّة بقاءنا؟".

عرب بلا عربيّة!

لا يستطيع أحد أن يدّعي عدم علمه بالتراجع الشّديد في استخدام اللّغة العربيّة على مستوى الوطن العربي، ولا بالتدهور البالغ في مستوى اللّغة العربيّة لدى مَن يستخدمونها، لكن أظنُّنا لم نطرح على أنفسِنا سؤالًا: هل يمكن أن يأتي يوم يكون فيه العرب من دون اللّغة العربيّة؟.

مطمئنّون نحن إلى أنّ العربيّة هي لغة القرآن الكريم وبالتّالي فهي باقية ما بقي دين الإسلام على الأرض، لكن هذا الاطمئنان يفترض أنّ كلّ العرب مسلمون ولذلك سيظلّون محافظين على اللّغة العربيّة، فهل يعني ذلك أن يستغني المسيحيّون عن استخدام اللّغة العربيّة وهم الذين كانوا حَمَلَة شعْلة القوميّة العربيّة؟ الإجابة معروفة. يُضاف إلى ذلك أنّ قصر العلاقة مع اللّغة العربيّة على قراءة القرآن الكريم يُنذِر بإذابة العرب في الشعوب الفارسيّة والتركيّة والماليزيّة والإندونيسيّة والشيشانيّة... إلخ التي تتعلّم العربيّة لتلاوة القرآن لكن لا تستخدمها في تعاملاتها، فهل هذا مطلوب؟ الإجابة أيضًا معروفة.

تمركز إيران وتركيا في سوريا والعراق سمح لهما بنشر لغتَيْهما في مناطق نفوذهما وهذا يسمح بالعبث بالتّاريخ العربي

اقترن العنوان الصادم لندوة "الحبتور" بالتحذير من خطورة تلاشي اللّغة العربيّة عند العرب على تماسُك مجتمعاتهم وكذلك على مواجهتهم للاختراق الخارجي. أما عن تهديد التماسُك المجتمعي فلأن اللّغة العربيّة مثّلت القاسم المشترك بين المكوّنات السكّانيّة المتنوّعّة التي تُعبّر عن التعدّدية المميّزة للمجتمعات العربيّة.

فلو أنّنا أخذنا المجتمع المصري على سبيل المثال لوجدنا أنّه خلال فترة ازدهار تعدّديته اللّغوية واحتضانه لليونانيّين والأرمن والإيطاليّين قبل ثورة عام ١٩٥٢، كان جميع هؤلاء يتكلّمون اللّغة العربيّة وفي الوقت عينه فإنّهم كانوا يحافظون على لغاتهم الأصليّة ويستخدمونها في ما بينهم، ومن هؤلاء خرج بعض أشهر الفنّانين في تاريخ السينما المصريّة. وبالتّالي، فإنّ اختفاء اللّغة العربيّة لا يعني فقط غياب القدرة على التّواصل بين أبناء المجتمع الواحد وتحوّل الجماعات اللّغوية المختلفة للانكفاء على نفسها، لكنّه من الممكن أن يمثّل نواةً لتفكيك المجتمع الواحد.

وأمّا عن مواجهة الاختراق الخارجي، فلأنّه في ظلّ فداحة تهديدات السيادة الوطنيّة للدول العربيّة من جانب دول الجوار الإقليمي غير العربي، ليس من حائط صدّ إلا حائط اللّغة العربيّة. فلو أخذنا دولةً مثل سوريا أو مثل العراق سنجد أن التمركز الإيراني والتّركي لهاتَيْن الدولتَيْن سمح لهما في مناطق نفوذهما بنشر لغتَيْهما وتطبيع المواطنين عليها، وهذا الوضع شديد الخطورة لأنّه يُهيِّء البنية التحتيّة لاستمرار علاقة التبعيّة هذه لأمدٍ غير معلوم. كما أنه يسمح بالعبث بالتّاريخ العربي عبر إضعاف اللّغة العربيّة التي هي حاملة هذا التاريخ والأداة الرئيسيّة للتعبير عنه. من هنا، فإنّ نَدوة الحبتور دخلَت إلى خطورة انكماش اللّغة العربيّة وبالأحرى تلاشيها من مدخل تهديد الأمن القومي العربي، وهذا مدخل مهمّ في مقاربة قضيّة اللّغة يتجاوز المدخل الثقافي والمعنوي الذي عادةً ما يتّم تسليط الضّوء عليه.

على المستوى الشخصي، أعتبر أنّ الحفاظ على اللغة أمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بقرار الدّولة أو الجماعة وبتوفّر الإرادة السياسيّة لدى كل منهما. وتُعدّ فرنسا نموذجًا تقليديًّا للدّولة التي تحارب من أجل الحفاظ على لغتها في مواجهة زحف العوْلمة وطغيان اللّغة الإنكليزيّة. ساهمَت فرنسا بدورٍ أساسي في تكوين منظّمة الدّول الناطقة باللّغة الفرنسيّة، ليس فقط للحفاظ على هذه اللّغة داخل حدود الأراضي الفرنسيّة لكن كذلك لضمان بقائها في المستعمرات الفرنسيّة السابقة. وهي تقف بكل قوّتها وراء استحداث شُعبٍ فرنسيّة في داخل الكليّات الجامعيّة في العديد من الدّول، وتُقدّم المِنَح لخرّيجي تلك الشُعب من أجل استكمال دراستهم العليا في باريس. وقبل نحو عام، انتهت فرنسا من إنشاء مدينة اللّغة الفرنسيّة الدوليّة في "فيلير كوتريه" بالقرب من العاصمة باريس لتروّج للّغة الفرنسيّة عبر استخدام مختلف عناصر الجذب والتشويق وربط ماضي فرنسا بحاضرها. هذا علمًا بأنّ اسم المدينة منسوب إلى الشخص الذي وضع أسُس اللّغة الفرنسيّة بشكلها الحديث.

ضياع اللّغة العربيّة فيه انكشاف للأمن القومي العربي ومواجهة هذا الانكشاف تحتاج إلى إرادةٍ صلبة

وتُعّد جماعة "الأمازيغ" في منطقة الشّمال الأفريقي من الجماعات القوميّة التي نجحَت في الحفاظ على لغتها على الرّغم من عوامل تهديدها، بدءًا من تعدّد اللهجات الأمازيغيّة وانتهاءً بالسياسات القديمة لبعض الدّول العربيّة في محاربة الخصوصيّة اللّغويّة للأمازيغ. لكن بفضل توفّر إرادة إبقاء اللّغة الأمازيغيّة حيّة ومنع تذويبها أو ذوبانها بشكل تلقائي في اللّغة العربيّة حدث تطوّر كبير، فإذا بهذه اللّغة تصير لغةً وطنيّةً ورسميّةً جنبًا إلى جنب مع اللّغة العربيّة في المغرب والجزائر على التوالي. وهذا هو المعنى العبقري للتنوّع في إطار الوحدة.

أمّا وأنّ ضياع اللّغة العربيّة فيه انكشاف للأمن القومي العربي، وأمّا وأنّ مواجهة هذا الانكشاف تحتاج إلى إرادةٍ صلبةٍ واقتناعٍ بجدوى التمسّك بلغتنا الأم، فإننا بحاجة إلى الاشتغال على تحريك هذه الإرادة كي يصبح تحصين اللّغة العربيّة وحمايتها، بل ونشرها، على رأس أولويّات الدّول العربيّة كافّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن