بعد الحرب العالميّة الثانيّة، كانت أوروبا تعيش حالةً من الدّمار والخراب. مدنها مخرّبة، شعوبها مُنهكة، واقتصاداتها في حالة انهيار. لكن، وسْط هذه المأساة، برزت رؤية جديدة: إنّ السّلام لا يمكن تحقيقه عبر القوّة العسكريّة وحدها، بل عبر بناء علاقات تعاونٍ وشراكة بين البلدان الأوروبيّة.
جاءت البداية من فكرة بسيطة ومُبتكرة: لماذا لا يُعمَل على توحيد الموارد الأساسيّة للحرب - الفحم والصّلب - بين البلدان الكبرى في أوروبا الغربية؟ بهذه الفكرة، وُلِدت الجماعة الأوروبيّة للفحم والصلب عام 1952، التي جمعت بين فرنسا، وألمانيا الغربيّة، وإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورغ. كانت هذه الخطوة الأولى نحو ما سيصبح لاحقًا الاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي كان دائمًا يجد طريقة للتغلّب على العقبات مستفيدًا من إرادة سياسيّة قويّة ومؤسسات فاعلة
لكن هذه الخطوة الصّغيرة لم تكن كافيّة لتحقيق الطّموح الأكبر. عام 1957، وُقِّعت معاهدتا روما، اللّتان أسّستا الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة والجماعة الأوروبيّة للطاقة الذرّية. هدفت الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة إلى إنشاء سوق مشتركة تُزيل الحواجز أمام حركة البضائع والخدمات ورؤوس الأموال والعمالة. لم تكن هذه مجرّد خطوة اقتصاديّة، بل كانت كذلك خطوة سياسيّة نحو تكاملٍ أكبر بين البلدان الأوروبيّة. في الوقت عينه، وُضِعت الأسس لأوّل سياسات مشتركة، بما في ذلك السياسة الزراعيّة المشتركة، التي أثارت كثيرًا من الجدل بسبب تكلفتها العاليّة وأثرها في المنافسة.
شهدت السبعينيات والثمانينيات توسّعًا كبيرًا في عدد البلدان الأعضاء. انضمت المملكة المتحدة والدنمارك وإيرلندا عام 1973، ثم تبعتها بلدان جنوب أوروبا مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال. ومع كل توسّع، كان الاتحاد يواجه تحدّيات جديدة تتعلّق بدمج الاقتصادات المختلفة والتوفيق بين المصالح الوطنيّة المتباينة. لكن الاتحاد كان دائمًا يجد طريقةً للتغلّب على هذه العقبات، مستفيدًا من إرادةٍ سياسيّة قويّة ومؤسساتٍ فاعلة.
عام 1992، شهد الاتحاد الأوروبي تحوّلًا نوعيًّا مع توقيع معاهدة "ماستريخت". هذه المعاهدة لم تغيّر فقط اسم الجماعة الاقتصاديّة الأوروبيّة إلى الاتحاد الأوروبي، بل قدّمت رؤيةً جديدة لتكاملٍ سياسي واقتصادي أعمق. تضمّنت المعاهدة إنشاء العملة الموحّدة، "يورو"، واعتماد سياسات مشتركة في مجالات مثل الدّفاع والشّؤون الخارجيّة. أصبح للأوروبيّين حقّ التنقّل والعمل والإقامة بحريّة في البلدان الأعضاء كلها، ما عزّز فكرة "المواطَنة الأوروبيّة".
لكن، كما هي الحال مع أي مشروعٍ كبير، برزت عوائق. العملة الموحّدة، التي طُرحت رسميًا عام 1999، أثارت تحدّيات كبيرة، ولا سيما خلال الأزمة الماليّة العالمية في 2008. واجهت بلدان مثل اليونان وإيرلندا وإسبانيا أزمات ديون سياديّة هدّدت استقرار "منطقة اليورو" بأكملها. كان الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى اتخاذ قراراتٍ صعبة، من بينها تقديم حُزَم إنقاذ مالي ضخمة وفرض سياسات تقشّف قاسيّة على البلدان المتعثّرة. هذه السياسات أنقذت الـ"يورو"، لكنها تركت آثارًا اجتماعيّة وسياسيّة عميقة.
توسّع الاتحاد كان تعبيرًا عن نجاحه في تعزيز الديموقراطية والاستقرار في مناطق كانت تعاني من أنظمة شموليّة
التوسّع نحو بلدان أوروبا الشرقيّة بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي كان إنجازًا آخر للاتّحاد. انضمّت بلدان مثل بولندا وتشيكيا وهنغاريا إلى الاتحاد عام 2004، ما رفع عدد الأعضاء إلى 25. هذا التوسّع لم يكن مجرّد إضافة جديدة للبلدان، بل كان أيضًا تعبيرًا عن نجاح الاتحاد في تعزيز الديموقراطية والاستقرار في مناطق كانت تعاني من أنظمة شموليّة. لكنّه ترافق أيضًا مع تحدّيات اقتصاديّة واجتماعيّة، إذ تفاوتت مستويات التنميّة بين البلدان القديمة والجديدة.
على الرّغم من هذه الإنجازات، لم يكن الاتحاد بمنأى عن الأزمات. عام 2016، صُدِم العالم بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو ما عُرِف بـ"بريكست". كان هذا الخروج تعبيرًا عن تزايد المشاعر القوميّة والشعبويّة في بريطانيا، وأثار تساؤلاتٍ عميقة حول مستقبل الاتّحاد. لكن الاتّحاد الأوروبي تعامل مع الأزمة بحزم، مؤكّدًا أنّه سيستمرّ في طريقه، على الرّغم من فقدانه أحد أعضائه الرئيسيّين.
ثم جاء "كوفيد-19" ليضيف تحدّيا جديدًا. كانت الجائحة اختبارًا حقيقيًّا للتّضامن الأوروبي، إذ واجهت البلدان الأعضاء أزماتٍ صحيّة واقتصاديّة غير مسبوقة. في البداية، ظهرت بعض الانقسامات، إذ اتّخذت كل دولة إجراءاتها الخاصّة لمواجهة الأزمة. لكن الاتّحاد تمكّن لاحقًا من تنسيق الجهود، وقدّم خطّة إنعاش اقتصادي ضخمة لدعم البلدان الأكثر تضرّرًا.
الغزو الرّوسي لأوكرانيا عام 2022 كان تحدّيًا آخر للاتّحاد. أعاد هذا النّزاع مسائل الأمن والدّفاع إلى الواجهة، ودفع الاتّحاد إلى تعزيز تعاونه الدفاعي. كذلك، أثبت الاتّحاد قدرته على التصرّف كقوّة موحّدة في مواجهة التّهديدات الخارجيّة، إذ فرض عقوبات صارمة على روسيا وقدّم دعمًا كبيرًا إلى أوكرانيا.
اليوم، الاتّحاد الأوروبي يواجه مستقبلًا مليئًا بالتحدّيات. تصاعُد المشاعر القوميّة، والضّغوط الاقتصاديّة، وأزمات المناخ والهجرة، كلّها مسائل تهدّد استقراره. لكن في الوقت عينه، يمتلك الاتحاد نقاط قوّة متينة: مؤسّسات قويّة، اقتصاد متكامل، وقيم مشتركة تجمع بين شعوبه.
تجربة الاتحاد الأوروبي أثبتت أنّ التّعاون أقوى من الخلاف
ليس الاتّحاد الأوروبي مجرّد تحالف اقتصادي أو سياسي. إنّه تجربة إنسانية فريدة تسعى إلى تجاوز الحدود القوميّة وتحقيق رؤية مشتركة للسّلام والتقدّم. هذه التجربة أثبتت أنّ التّعاون، على الرّغم من العقبات كلّها، يمكن أن يكون أقوى من الخلاف. لكن السّؤال الذي يبقى هو: هل يستطيع الاتّحاد الأوروبي الصّمود في وجه تحدّيات المستقبل، أم أنّه سيواجه مصير التّحالفات الكبرى التي سبقته؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدّد ملامح أوروبا، وربما العالم، في العقود المقبلة.
الاتّحاد الأوروبّي قصّة حلم تحقّق على أرض الواقع، لكنه لا يزال يواجه اختبار الزّمن. بالتعاون والإرادة السياسيّة، يمكن لهذا المشروع أن يستمرّ كنموذج فريد يُحتذَى للتّكامل الدّولي.
(خاص "عروبة 22")