لا تزال التطورات السورية المحتدمة تُهيّمن على المشهد العام وسط تحليلات متضاربة عن الأسباب والنتائج المتوقعة والدلالات الخفية وراء الهجوم المُباغت الذي تشنه الفصائل السورية المسلّحة، والتي تحقق تقدماً ميدانياً واسعاً جعلها تقترب من حسم معركة حماة ذات الدلالات السياسية والعسكرية والجغرافية الهامة.
فالمعارك، التي بدأت بشكل مفاجىء، بعد يومين فقط من اعلان اتفاق وقف النار في لبنان، حرّكت المخاوف الايرانية من وجود محاولات لاعادة رسم خريطة موازين القوى في سوريا واستهداف نفوذها تزامناً مع ما يجري من تطورات في المنطقة بأسرها. وهذا ما دفع طهران على لسان أكثر من مسؤول الى التحذير من مغبة التساهل مما يجري وإمكانية انتقاله الى الدول والبلدان المجاورة.
ولهذا، تضع ايران ما يدور في قالب "الارهاب" الذي يسعى للتفشي، وتتخوف من اتفاق روسي - تركي على حسابها، وهو ما أعرب عنه الدبلوماسي الإيراني السابق عبد الرضا فرجي راد بعد ترجيحه "تصعيداً كبيراً على جبهة حماة وحمص في الأيام المقبلة". وقال: "تركيا ستضاعف من ضغطها على الجماعات الكردية، وهو ما قد يدفع روسيا إلى التوصل إلى اتفاق مع تركيا ينص على ألا يكون (الرئيس السوري) بشار الأسد في الحكم، وأن يتم تشكيل حكومة مؤقتة في دمشق".
من هذا المنطلق، يستكمل وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي جولته التي بدأها من سوريا فتركيا، حيث "سيتوجه إلى بغداد أولاً، يوم الجمعة المقبل، ومن ثم إلى الدوحة لحضور اجتماع (مسار أستانا)"، وفق ما نقلته وكالة "مهر" الحكومية. بالتزامن أكدت وسائل إعلام إيرانية وصول فريق استشاري عسكري إيراني إلى دمشق لمساعدة السلطات هناك، برئاسة العميد جواد غفاري، الذي أشرف على مدار خمس سنوات من 2016 إلى 2021، على المعارك في سوريا، كما كان على علاقة شديدة الصلة بقائد "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني، الذي قُتل بغارة أميركية استهدفته في بغداد عام 2020.
ويترافق هذا التحرك الايراني مع تطورات ميدانية شديدة الأهمية، وتتجسد بأمرين: الأول ما صرح به زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، الذي ظهر أمس للمرة الاولى في حلب، بأن الهيئة تفكر في حل نفسها لخلق مؤسسات جديدة قادرة على إدارة المناطق، مؤكداً أن حلب ستديرها هيئة انتقالية. والثاني تمثل بقيام روسيا بسحب كامل أسطولها البحري من قاعدتها البحرية في طرطوس، على الساحل السوري، في خطوة قد تشير إلى أن موسكو لا تنوي إرسال تعزيزات كبيرة للدفاع عن نظام الأسد، وفق ما ذكرته وسائل اعلام عدة.
وكان الأسد، بحسب ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مصادر مطلعة زار موسكو مؤخراً، حيث طلب المزيد من الدعم الروسي. ويأتي ذلك على وقع نجاح "هيئة تحرير الشام" والفصائل المسلّحة المتحالفة معها في تطويق مدينة حماة، من ثلاث جهات، حيث باتت تتواجد على مسافة تتراوح بين ثلاثة وأربعة كيلومترات منها، فيما تخوض قوات النظام معارك شرسة هناك لصدّ تقدمها.
وتلقي التطورات السورية بثقلها على الواقع اللبناني نتيجة ما يربط البلدين من علاقات وحدود مشتركة، وسط مخاوف من موجة نزوح جديدة عقب الأحداث المتسارعة خاصة أن البلاد لا تزال تحت وطأة تداعيات العدوان الاسرائيلي وما خلفه من خسائر بشرية واقتصادية ستكون ضمن الاولويات في المرحلة المقبلة، بظل توجه داخلي مدفوع بإرادة خارجية بانتخاب رئيس للجمهورية واطلاق عجلة الحركة السياسية لمواجهة هذه التحديات وعلى رأسها مسألة إعادة الاعمار. وتتراوح حجم الخسائر الاقتصادية المباشرة للحرب التي لم تتضح كامل معالمها بعد بين 15 و20 مليار دولار أميركي، فيما قدّر وزير الاقتصاد والتجارة، أمين سلام، التكلفة الأولية لإعادة الإعمار على أنها تتراوح بين 20 و30 مليار دولار، 6 مليارات منها فقط لترميم وإعادة إعمار الأبنية السكنية والمؤسسات الخاصة.
وفي سيّاق متصل، كشفت أربعة مصادر مطلعة على معلومات مخابرات أميركية محدّثة، لوكالة "رويترز"، أن "قدرات "حزب الله" العسكرية تراجعت، لكن الجماعة ستحاول على الأرجح إعادة بناء مخزوناتها وقواتها، لتشكل تهديدًا على المدى البعيد للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة". وبحسب المصادر، فإن أجهزة المخابرات الأميركية قدرت في الأسابيع القليلة الماضية أن "حزب الله" بدأ، حتى في وقت كانت فيه الحملة العسكرية الإسرائيليّة مستمرة، في تجنيد مقاتلين ويحاول العثور على سُبل لإعادة التسلح عبر الإنتاج المحلي وتهريب مواد عبر سوريا".
وتراجعت حدة الخروقات الإسرائيليّة مع دخول لبنان الأسبوع الأول على اعلان التسوية برعاية أميركية فرنسية. في المقابل، وصف نائب المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان ومنسق الشؤون الإنسانية، عمران ريزا، اتفاق وقف النار بالـ"فرصة الضرورية للتهدئة في لبنان إلا أنه لا يزال "هشاً".
وعلى المقلب الآخر، يشهد الواقع الفلسطيني المزيد من التعقيدات مع تعمّد الاحتلال ارتكاب ابادة جماعية بحسب ما وثقته "منظمة العفو الدولية". في حين استشهد 20 شخصاً، وأصيب العشرات، معظمهم قضوا حرقاً، في مجزرة جديدة استهدفت خيام النازحين في منطقة المواصي، شمال غرب خان يونس، جنوب قطاع غزّة.
وبينما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن إسرائيل استعادت، خلال عملية خاصة، جثة أسير إسرائيلي تم أسره في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 خلال هجوم "حماس" وقُتل خلال الأسر. قالت وكالة "رويترز" إنها اطلعت على بيان داخلي لـ"حماس" يُفيد بأن لدى الحركة معلومات عن نية تل أبيب تنفيذ عملية لاستعادة بعض أسراها في قطاع غزّة على غرار "عملية النصيرات" السابقة، مهددة بـ"تحييد" الرهائن في حال حصول ذلك.
الى ذلك، استأنفت قطر دورها كوسيط رئيسي وذلك بعد لقاءات عقدها المبعوث الجديد للرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب الى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، مع رئيس وزراء قطر وزير الخارجية محمد بن عبدالرحمن آل ثاني كما رئيس الوزراء الإسرائيلي، للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن قبل تولي ترامب منصبه في 20 يناير/كانون الثاني المقبل.
وخلال جولة اليوم على الصحف العربية التي تناولت المستجدات السورية وتداعياتها العربية والاقليمية لاسيما بظل الانقسام حيال ما يجري، حيث:
اعتبرت صحيفة "الخليج" الاماراتية أن "التصعيد المشبوه الجاري منذ نحو أسبوع لن يخدم الشعب السوري ولن يزيده إلا بؤساً وألماً ومزيداً من الضحايا، فضلاً عن أنه يهدد استقرار المنطقة ويستقطب مزيداً من الأطراف التي لا تفكر إلا في مصالحها مهما رفعت من شعارات". وقالت: "إن لعبة الصراع بين المصالح دفعت الكثيرين إلى تقمص أدوار مصطنعة واصطناع التباكي، فيما يفترض على كل الأطراف العاقلة أن تسارع بإخماد هذه الفتنة ووأد الأحقاد الطائفية".
من جهتها، رأت صحيفة "الوطن" القطرية أن "هناك سياقاً إقليمياً يشهد تحولات كبيرة ومنها ملحمة طوفان الأقصى، وتساقط الميليشيات اللبنانية في الإقليم لكنّ مطلب الثورة السورية بشعاراته الأصلية يعتبر المحرّك الأساسي لما يحدث في سوريا اليوم". وتابعت: "القول بأن المنظومات الدولية العالمية هي التي ترسم المسارات في المنطقة بما فيها ما يحدث اليوم في سوريا هو كلام نسبي، اذ إنه يُلغي مسؤولية الفواعل المحلية أولا والاقليمية ثانية، بل وحتى الدولية".
ومن وجهة نظر صحيفة "الغد" الأردنية، فإن "سوريا هي مثالٌ عمليٌ على انهيار النظام العربي وفشل دوله جميعها، وهي ساحة مستباحةٌ لتصارع الكبار"، مشددة على أن "سوريا تستحق مشاركة الشعب في الحكم وتداولا سلميا للسلطة، ومن جانب آخر تستحق جماعات ثورية غير مأجورة لهذه الجهة أو تلك، ومعارضة مستنيرة تنبذ الكراهية الطائفية والعرقية، معارضة تستحضر عوامل وحدة الأمة عوضا عن عوامل نزاعها العقدي والطائفي"، على حدّ قولها.
أما صحيفة "عُمان" العمانية، فأوضحت أن "محركات الصراع في الساحة السورية دخلت فيها عوامل جيوسياسية دولية وإقليمية جديدة لعبت دورًا كبيرًا في تطورها على هذا النحو الدراماتيكي". وأضافت: "المعادلات الجيوسياسية الجديدة ستضع دمشق أمام استحقاق دفع أكلاف باهظة لا يبدو أنها في وارد القبول بها، الأمر الذي ربما تنفتح معه أطوار جديدة من الصراع وفصولاً دراماتيكية قد تقلب الطاولة على الجميع".
بدورها، لفتت صحيفة "القدس العربي" إلى "وجود أجندتين أساسيتين في سوريا، الأولى تدرك أن ما يحصل حاليا سببه سد نظام بشار الأسد آفاق العملية السياسية، والثانية، تحاول إلغاء الحل السياسي وإنقاذ نظام فقد أسباب بقائه"، واضعة الحالة العسكرية ـ السياسية المستجدة، في إطار "الفرصة الكبيرة، التي يمكن الاستفادة منها، لإقفال ملف الحرب الوحشية الهائلة التي كلفت السوريين، والإقليم، والعالم، أكلافا رهيبة، وهي مناسبة للدول العربية، قبل غيرها، كما للمنظومة الدولية، للضغط في اتجاه تحقيق تسوية سياسية طال انتظارها".
وضمن الاطار نفسه، كتبت صحيفة "اللواء" اللبنانية عن الوضع المستجد في سوريا، إذ أشارت إلى أن "امام الرئيس السوري خياران، احلاهما مرٌّ، الاول المبادرة للجلوس مع المعارضة سريعا، لتسريع الحل السياسي للازمة السورية واعلان انهاء تحالفه مع ايران او الاستمرار في مواجهة المعارضة حتى النهاية، في ظل موازين قوى لصالح المعارضة وليست لصالحه".
(رصد "عروبة 22")