بصمات

عن الهُويّات المتأرجِحة ومفهوم المواطَنة

سعيد علي نجدي

المشاركة

تبرز أمامنا اليوم على الساحة أحاديث عن التّقسيم، أو الفيدرالية، خصوصًا في لبنان، وكل طرح هو مشروع بطبيعة الحال، لكن نغمة الهُويّة كمفهوم تتصعّد انطلاقًا من معيار تقسيمي، وهنا لا بد أن نقول إنّ الهُويّة كمفهوم هي إلى حدٍّ كبير ذات طابع ضبابي إن لم نقل وهميّا في أحيانٍ كثيرة، خصوصًا على صعيد الجماعات، لأن الهُويّة لها بُعد ذاتي.

عن الهُويّات المتأرجِحة ومفهوم المواطَنة

من هنا كيف نقول هُويّة مسيحيّة مثلًا؟ هل كلّ المسيحيّين لهم الهوية عينها؟ حتّى أكاديميًّا هل هناك وجهة واحدة؟ ففي العلوم الإنسانيّة هناك اتجاه أنغلو-ساكسوني، وآخر فرانكوفوني، للجماعة القوميّة نفسها. مثلًا هناك شيعة في لبنان ممن يتبعون "حزب الله"، لهم وجهة "ولاية الفقيه" التي تُعتبر بنظر وجهة المرجعيّة الأصيلة لخط الإماميّة أنّها تسبّب أزمة حكم وطاعة على ما أشار الشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدّين، انطلاقًا من الولاء والطّاعة لدولة أخرى تبعًا للولاية المطلقة التي يسبغها على نفسه "الولي الفقيه"، مما يحوّل الأوطان الأخرى إلى ساحاتٍ تُجزِّئ الأوطان وتُدخل الجماعات في حروبٍ أهليّة ومذهبيّة، عكس وجهة المرجعيّة في النّجف التي لها وجهة إرشاديّة بأن لا يكون للجماعات مشاريع خاصّة إنّما تدعوهم إلى الاندماج الوطني تحت سقف القانون للدّولة، لذلك كيف تستقيم الفيدرالية انطلاقًا من معيار الهُويّة؟.

الهُويّة شيء ينطلق من البُعد الذّاتي للفرد والجماعات

كلّ حديث عن الفيدرالية انطلاقًا من الهُويّات لهو محض مؤشّر إلى التّقسيم الذي نحن بحاجة إلى التخلّص منه، ومن يتحدّث بلغةٍ أكاديميّة بإسقاط مفهوم مطبّق بمكانٍ على آخر هو أيضًا عبادة منهجيّة، لذا مفترض من المتخصّص أن يستخرج أدواته من الواقع، لا أن يُسوّغ فكرته من حجّة أنّ هذا الأمر موجود مثلًا في الولايات المتحدة الأميركية المتعدّدة الثّقافات. وهو أمر غير موجود في بلدان أخرى، ففي لبنان مثلًا كل الطوائف والجماعات ذات ثقافة واحدة، بشتّى الأنماط في الفولكلور والعادات والتّقاليد والمفاهيم، أي أنّ لبنان جماعاته ذات ثقافة واحدة.

والهُويّة ترتكز بشكلٍ من الأشكال على المصلحة الشخصيّة أيضًا، من خلال التبدّل الدّائم في مسار الهُويّة الشخصيّة، مثلًا نرى أفرادًا يتبدّل ولاؤهم، فمثلًا هناك من اعتنق الهُويّة القوميّة ومن ثمَّ الأمميّة، ومنهم من كان ماركسيًّا يتعلّق بشكل تعصّبي بالاتحاد السوفياتي، ومن ثم أصبح داعيًا ليبيراليًا، نقول هذا من باب أنّ الهُويّة شيء ينطلق من البُعد الذّاتي للفرد وحتّى للجماعات.

وفي هذا السياق، الهُويّة قد تكون مركّبة ومتعدّدة للجماعة نفسها، لا يحدّدها الدّين، فقد أكون شيعيًّا ولبنانيًّا وعربيًّا، وذوقي الفنّي غربي موسيقيًّا، وروسيًّا على مستوى الرّواية، وألمانيًّا على مستوى الفلسفة، وهذا شيء قد يشترك معي فيه بعدّة نواحي الدّرزي، أو السنّي، أو الأرثوذكسي، وفي نواحٍ أخرى قد أشترك مع الماروني بأشياء عديدة أخرى.

علينا أن نضيء على ما هو أصيل وجامع كالثّقافة الواحدة وتعزيز مفهوم المواطَنة التي تحفظ كلّ الانتماءات

من هنا إلى أي حدّ نحن اليوم بحاجة إلى تبديل مفاهيم قد تعزّز وتكرّس الانقسام، بدل ترديد مفاهيم بشكل ببّغائي، فقط لأنها ذات منشأ من بلدٍ آخر ذي خطاب كوني، كطقس عبور والتحاق ببلدٍ آخر؟ لذلك علينا أن نضيء على ما هو أصيل وجامع كالثّقافة الواحدة التي تقرّب لأنّ جميع المكوّنات تشترك في أنماط سلوكها، اللّغة، والأدب والعادات، والمعايير المجتمعيّة، وغيرها.

نقول هذا الأمر الذي ينطبق على فلسطين وسوريا والعراق واليمن التي شتّتتها مفاهيم الهُويّة، لأنّ لها غايات سياسيّة تقسيميّة تريد أن تُبقي الأوطان ساحاتٍ للنّزاع الأهلي فتشحذ الهُويّة كأداة ومفهوم للتّقسيم، لهذا بدل الكلام عن الهُويّة لا بد من تعزيز مفهوم المواطَنة التي تحفظ كلّ الانتماءات تحت سقف القانون للدّولة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن