شجون فكرية في شؤون لغوية

هل أثقلتُ عليك بالإسهاب في سرد هموم العربية؟ إذًا تكون قد أضفتَ إلى القائمة همًّا آخر، أن يضجر الفكر من ذكر أدواء لغته. طِبْ نفْسًا وخذ نفَسًا، فالطرح عليه مسحة استشرافية، لكن على ذهنك أن يتحلى بنفحة من حلم معن بن زائدة.

هل تتصور أن البحث العلمي في العالم العربي أفضل ممّا هو عليه في فرنسا؟ لم يعد الباحث الفرنسي قادراً على وضع إبهام قدمه خارج دائرة الإنجليزية، فأوراق البحوث موجهةٌ إلى مجلات عالمية مرموقة، هي التي تُقوّم وتُصنّف، وفيها الورقة تُكرم أو تُهان. فهل يجوز السؤال عن حال البحوث العلمية بالعربية؟ حذار أن تزلّ بك القدم إلى الدعابة، فتسأل: وأين هي أصلاً؟ ليتها كانت، حتى ولو كانت بلغة «رسالة الغفران»، فنغمرها بالبخور والأوراد كمزارات الصالحين.

ماذا يعني هذا؟ على المعنيين بشؤون العربية ومصيرها، أن يفكّروا قليلاً بمنهجية بيولوجية. من العبارات المشهورة لدى علماء الأحياء: «الوظيفة تخلق العضو». بالتالي: الأعضاء التي تفقد أدوارها تضمر وتضمحلّ. اللغة ليست استثناء. عندما تتخلى البلدان العربية عن العربية عامّةً، والفصحى خاصّةً، في الأوساط الأكاديمية والإدارة والاقتصاد، وتتردّى الفصحى في الإعلام السمعي البصري، وينشأ النشء الجديد على لغة هي محض مسخ، فإن المآل البيولوجي عليكِ هو المكتوب يا لغتي.

الناس لا يتساوون في المسؤولية إزاء واقع اللغة ومستقبلها. المعنيون بسلامة العربية وسيادتها هم المسؤولون عن الإخفاق المخجل في محو أمّية عشرات الملايين. 20% من العرب تساوي ثمانين مليونًا. يا للخيبة، ثم، أيّ معادلة ضيزى هذه التي تقضي بأن يقضي العربي عقدين في التعامل بلغته من دون امتلاكها؟ تأمّلوا مقدّمي البرامج من شباب الصين وروسيا، كيف يتكلّمون الفصحى. كيف تعلّموها في مدّة محدودة على أيّ حال؟ أيّها الحضرات، لم تكن للجاهليين مدارس ذات مناهج وكتب. أولئك الذين لم يعرفوا أنظمة تعليم هم الذين قام على شواهد شعرهم النحو والصرف والبلاغة إلى يومنا هذا. التلاميذ والطلاب براءٌ إذا كانت المناهج لا تُزهر ولا تُثمر. إذا حظي الطفل بالرعاية والعناية، فإنه يستطيع إتقان ثلاث لغات قبل السادسة. هل البحث عن مناهج جديدة أيسرُ أم جهود الفيزيائيين المضنية في البحث عن فيزياء جديدة، لأنهم لا يقدرون على المراوحة في طريق مسدود؟ المفاجأة المُرّة هي أن يجعل التقدم النجومي في العلوم والتقانة، لغتنا عاجزةً عن الحركة، أمّا اللحاق فالمثل محبِط: «الركض خلف النعام يفلق».

لزوم ما يلزم: النتيجة المنعرجيّة: فكّروا مليًّا في المنعطف اللغوي الثقافي الحضاري وآثاره، إذا قررت قوى النظام العالمي الجديد، الخروج من عباءة هيمنة الإنجليزية. طرح يحتاج إلى طرح.

("الخليج") الإماراتية

يتم التصفح الآن