وردت عدة إشارات إلى الحقّ في التنمية في مصادر متعدّدة ومن ذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي أشار في ديباجية إلى ضرورة تحقيق الرقيّ الاجتماعي، كما أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الكرامة والمساواة والحقّ في الرفاه (المادة 25) وكذلك التمتع بالحقّ في نظام اجتماعي دول (المادة 28).
كما نصّ ميثاق منظمة الدول الأمريكية على حقّ الدول في تطوير الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية فيها تجربة وبصورة طبيعية. كما أشارت إلى هذا الحقّ، الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والإعلان المتعلّق بالسيادة الدائمة على الموارد الطبيعية، والعهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان وإعلان التقدّم والإنماء في الميدان الاجتماعي والإستراتيجية الإنمائية الدولية لعقد الأمم المتحدة الإنمائي الثاني، والاعلان المتعلق بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد وميثاق حقوق الدول وواجباتها الاقتصادية، والميثاق الأفريقي لحقوق الانسان وغير ذلك من النصوص، الصادرة ما بين 1945 إلذى 1986.
ساهمت المقاربات النقدية لمفهوم التنمية الاقتصادية بإضفاء الطابع الإنساني على التنمية وربطها بالحريات والحقوق
لكن يُعتبر إعلان الحق في التنمية (قرار الجمعية العامة 128/41)، الصادر في 4 دجنبر/ديسمبر 1986، النصّ المؤسّس للحقّ في التنمية والمحدّد لمضامينه. وجاء في المادة الأولى، في الفقرة (1) بأنّ "الحقّ في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرّف وبموجبه يحلّ لكلّ إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية والتمتّع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية إعمالًا تامًا".
ولم يصل المنتظم الدولي إلى مرحلة الانتقال من مفهوم التنمية إلى الإعلان عن الحقّ في التنمية، أيّ دمج هذا الحق في المنظومة الحقوقية، إلا بعد مسار طويل من النقاش الأكاديمي والسجال السياسي. حيث تمّ نقد المقاربات التقليدية، التي ربطت التنمية بالجوانب المادية وأغفلت البُعد الإنساني. وساهمت المقاربات النقدية لمفهوم التنمية الاقتصادية بإضفاء الطابع الإنساني على التنمية وربطها بالحريات والحقوق وخصوصًا مع انتشار أعمال المفكّر الهندي "أمارتيا صن"، الذي أكد على كون الحريات هي التي تعزّز من قيمة التنمية.
ويبدو أنّ تراكم الأبحاث والمقاربات حول التنمية الاقتصادية، قد ساهم في التوجّه نحو الإقرار بأنّ مفهوم التنمية المستدامة ينطوي على الكثير من الإشكالات والتي لا يمكن مطارحتها فقط من منظور أحادي، مثل الليبيرالية الجديدة، بل يتعيّن ادماج منظورات متعدّدة تركّز على الجانب الإنساني في التنمية، وهكذا أصبحت التنمية ضمن الأهداف الإنمائية ثم بعد ذلك تمت صياغتها في 17 هدفًا للتنمية المستدامة سنة 2015 من طرف الأمم المتحدة.
واتجه فقهاء القانون الدولي وبعض الباحثين الحقوقيين، إلى اعتبار الحقّ في التنمية هو الحقّ في الرفاه والعيش الكريم وحقّ في الازدهار، وهو من الحقوق الذاتية، وتقع مسؤولية صيانته وحمايته على الأفراد والجماعات والدول والمنتظم الدولي، وهو ما أكدته نصوص الإعلان في الحقّ في التنمية. وبالرغم من اعتراض البعض والتشكيك في "قانونية" الحقّ في التنمية واعتباره من أشباه الحقوق أو الحقوق غير المتبلورة، فإنّ الاتجاه العام، يذهب إلى تأكيد البُعد القانوني لهذا الحقّ، كما أنّ تحضير المفوضية السامية لحقوق الإنسان لمسودة معاهدة بخصوص الحقّ في التنمية مند 2018، سيُضفي عليه طابع الإلزامية، ويفرض على الدول الالتزام باعمال الحقّ في التنمية.
6 دول عربية حققت 60% من أهداف التنمية المستدامة و19 دولة عربية لم تحقق أيّ هدف
لكن يواجه إعمال الحقّ في التنمية عدة عوائق، منها ما هو مرتبط بالأمم المتحدة نفسها التي تحتاج إلى إصلاح شامل، ومنها ما هو متعلق بالسياسات الدولية والصراع الجيواقتصادي العالمي وتكالب الشركات الكبرى على الخيرات والموارد الطبيعية للشعوب الضعيفة، ومنها ما هو متعلق بفشل السياسات الإنمائية الوطنية سواء بسبب الفساد وسوء التدبير وانعدام الحكامة الجيدة، أو بسبب إعاقة القوى الكبرى لمسار التنمية وحرمان عدة شعوب من حقّها في التنمية.
وتُعتبر الدول العربية من بين من يعاني من التعثّر في تحقيق التنمية بكل أبعادها، وبالتالي عدم الوصول إلى إعمال الحق في التنمية؛ و6 دول عربية هي التي حققت 60% من أهداف التنمية المستدامة و19 دولة عربية لم تحقق أيّ هدف كما بيّن تقرير صادر عن القمة العالمية لسنة 2022. وجاء كذلك في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2022 (الملخّص التنفيذي) تشخيص للوضعية العربية في مجال التنمية، حيث أكد على ما يلي: "كانت منطقة الدول العربية تعاني أصلًا من عدة نقاط ضعف وهشاشة قبل تفشّي جائحة كوفيد-19، زاد من تفاقمها كثير من الأحيان النزاعات وانعدام الاستقرار. فالممارسات الاقتصادية غير المستدامة وأوجه عدم المساواة الاقتصادية قلّصت فرص تحقيق تنمية بشرية شاملة، كما تُسبّب عدم المساواة المكانية في خلق عقبات هيكلية أمام الحصول على الخدمات الأساسية وآليات التكيّف التي كان بإمكانها دعم الفئات الأكثر عرضة للخطر. كذلك كشفت الجائحة عن أوجه لعدم المساواة الاجتماعية العميقة وعدم استعداد الحكومات لمواجهة التحديات الناشئة".
هناك خلل بين الأجيال العربية الحاضرة على مستوى التمتّع بالحقّ في التنمية، فما بالك مع الأجيال القادمة
وبالرغم من الجهود المبذولة في المنطقة العربية لتحقيق تنمية شاملة، فإنّ إعمال الحق في التنمية لا زال بعيد المنال ذلك أنه كما جاء في التقرير: "في الدول العربية، كما هو الحال في سائر البلدان، تؤثر ديناميات السلطة والتفاعل بين المؤسسات والاقتصادات والمجتمعات على الإمكانات البشرية، ومن الممكن أن توسّع أو تقلّل من الأشكال العديدة لعدم المساواة. فهياكل السلطة غير المتوازنة تؤدي إلى وضع قواعد وسياسات ونواتج تعطي الأفضلية للعلاقات بين المواطنين والدولة، والعمليات التي تشكّل هذه العلاقات وتصلحها، فضلًا عن مسار التنمية البشرية على طول النطاق بين النزاع والسلام".
ولا شك أنّ هناك خللًا بين الأجيال الحاضرة في المنطقة العربية على مستوى التمتّع بالحقّ في التنمية، فما بالك مع الأجيال القادمة. ولا يكفي تعميم التأكيد الدستوري على حقوق الأجيال العربية، وقد نصّت عدة دساتير عربية على ذلك، لكن يتعيّن تعميم مراقبة السياسات العمومية وإلزام المؤسسات الساهرة على تنفيذها احترام الحق في التنمية للأجيال الحاضرة والمستقبلية. وهذا يتطلّب ثقافة مستقبلية تستوعب مآلات السياسات والإجراءات التنظيمية، كما يتطلّب يقظة للمجتمع المدني العربي لرصد المخاطر الداخلية والخارجية، المهدّدة لإعمال الحق في التنمية.
ولا شك أنّ هناك حاجة إلى ادماج مفاهيم الإنصاف والشراكة بين الأجيال، وكذلك العدالة المناخية والمقاربة الخضراء والنمو الأخضر، والذكاء الأخضر، و"العدالة البيئية"، وغيرها من المفاهيم الجديدة، في المنظومة التربوية والبحثية والتدبيرية. لكن ذلك لن يكون كافيًا، إذا لم تكن هناك "قوة الزامية" لترسيخ مبدأ مسؤولية الجيل الحاضر وتعزيز حرياته وقدراته. وهناك حاجة إلى تجديد عقد اجتماعي عربي، يعزّز الثقة بين كافة مكوّنات المجتمعات العربية، للوعي برهانات الحاضر وتحديات المستقبل.
(خاص "عروبة 22")