مراجعات

الحفر العربي في الماضي الاستعماري: "الإبادة الجماعيّة" في ليبيا نموذجًا

تركّز اهتمام المشتغلين بالتّاريخ السّياسي في المنطقة المغاربية عامّة بدراسة تاريخ حركات التحرّر الوطني، زمن السّيطرة الاستعماريّة بأبعادها وأشكالها ومضامينها المختلفة، بشكلٍ واسع، وعلى الرّغم من أهمّية ما أنتج في هذا المضمار نلاحظ قلّة الاهتمام معرفيًّا بأشكال ومضامين السّياسة العقابيّة التي اعتمدها الاحتلال في تلك المناطق إلّا جزئيًّا، أمّا على المستوى المنهجي فنلاحظ غياب الدّراسات المقارِنة سواء بين أشكال ومضامين تلك السّياسة، ذات الصّلة بالسّجون، المعتقلات، النّفي والإبادات، أو بين ممارسات كلّ من فرنسا في الجزائر والمغرب وتونس، أو إيطاليا في ليبيا، ضمن أمثلة أخرى.

الحفر العربي في الماضي الاستعماري:

هذا حقلٌ بحثيٌ حاول الدّكتور الأستاذ عليّ عبد اللّطيف حميدة تداركه باقتدار من خلال كتابه الذي جاء تحت عنوان "الإبادة الجماعيّة في ليبيا الشرّ: تاريخ استعماري مخفيّ". صحيح أنّ بعض المؤرّخين في المنطقة أو في الخارج تناول بعضًا من مظاهر تلك السّياسة غير أنّ هذا الكتاب قد تميّز حسب رأينا بأربع ميزات أساسيّة على الأقل:

تتمثّل الأولى في كشف المؤلّف عن تفاصيل وحجم ومظاهر عمليّة الإبادة التي تعرّض لها الشّعب الليبي وهي الّتي ظلّت مُغيّبة عن اهتمامات الباحثين العرب وغيرهم؛ أمّا الميزة الثّانية فتتمثّل في اعتماد الباحث على كمّ هائل من المراجع والمصادر المتنوّعة بلغاتٍ متعدّدة إضافةً إلى "أرشيف الصّدور" الذي يتمثّل في شهادات مَن عاشوا هذه المحنة أو ضحاياها بالإضافة؛ هناك أيضًا حضور كمّ هائل من الشّعر الشّعبي الذي يرجع في أغلبه لأولئك الضّحايا؛ وأخيرًا الميزة الرّابعة، وكانت في استخدام الكاتب منهجيّة المقارنة بين الكمّ الهائل من الكتابات التي تعرّضت بالشّرح والتّحليل لما تعرّض له اليهود في أوروبّا، أو ما يُعرف بالهولوكوست، من قبل الأطُر الفكريّة الأوروبيّة وتغييبها جزئيًّا أو كليًّا إثارة ما حدث في ليبيا ما بين عامي 1929 و1934 من إبادة جماعيّة عن طريق الحُكم الإيطالي الفاشي.

الأنظمة الديموقراطيّة الأوروبيّة المنتصرة في الحرب تستّرت على كل ما ارتكبه النّظام الفاشي ضد الشّعوب من جرائم

اعتمد الدّكتور حميدة في كتابه تتبّع مسيرة مَنْ بقوا على قيد الحياة من النّاجين من "معسكرات الشرّ" الإيطاليّة، وسجّل شهاداتهم نثرًا وشعرًا، وقام بمقابلات شخصيّة استحضرت ذلك الماضي البعيد والكئيب والمسكون بـ"الشّر"، كما عبّر عن ذلك الضّحايا تعبيرًا للطّبيعة الشرّيرة للاستعمار الفاشي في ليبيا وهو المصطلح الذي يرادف "الهولوكوست" بتعبير الكاتب.

صدر هذا الكتاب عن دار "كلام للبحوث" و"مجمّع ليبيا للدّراسات"، وجاء في نحو 432 صفحة بترجمةٍ من الإنكليزية أنجزها الدّكتور محمد زاهي بشير المغيربي. توزّع العمل بين مقدّمة بعنوان "التّفكير حول الإبادة الجماعيّة اللّيبيّة" وخمسة فصول وخاتمة عامّة ونحو سبعة ملاحق لصورٍ حيّة، وشهادات الضّحايا وعدّة رسوم وصوَر وخرائط ذات علاقة بموضوع المعتقلات الجماعيّة، وعددها ستة عشر معسكرًا، منها خمسة معتقلات مارس فيها الفاشيّون أنواعًا شتّى من التّعذيب والتّجويع والقتل ضدّ اللّيبيّين، كما تمّ إجبار حوالى 110 آلاف مدني على السّير من منازلهم إلى الصّحراء وصولًا لمعسكرات الموت.

بيَّن الكاتب من خلال الوثائق أنّ هذه الجريمة أدّت إلى وفاة ما بين سبعين ألفًا إلى ثمانين ألفًا من السّكّان اللّيبيّين نتيجة الجوع والمرض والإعدامات ومصادرة الأراضي، وتسميم المحاصيل وحرقها، والقضاء على جزء مهمّ من الثّروة الحيوانيّة التي قُدّرت بنحو 600 ألف من رؤوس الماشية، فكان من نتيجة تلك الجرائم انخفاض عدد سكان ليبيا من 225 ألف نسمة إلى 142 ألفًا وكان هذا التّدمير والتّعذيب والقتل الجماعي للنّاس عملية مُمَنهجة من قبل النّظام الفاشي كردّ فعل على مقاومة اللّيبيّين التي استمرت نحو 20 سنة ضد الاستعمار الإيطالي الاستيطاني القسري الذي استخدم القوّة المُفرطة، كما عمل على تفكيك المجتمع المحلّي وتهجير أفراده وإبادتهم، وتغيير البيئة الاجتماعيّة بإحلال سكّان جدد محلّ المجتمع الأصلي، وتغيير ملامحه الأصليّة المتوارَثة كتغيير أسماء الأماكن والمدن وأنماط الإنتاج واللّغة والفنون والأزياء.

أكّد الكاتب أنّ دراسته، التي دامت أكثر من عقدٍ من الزّمن، لعملية الإبادة، هي مجرّد جزء من المنظور الشّامل لدراسات الإبادة في المستعمرات، وخصوصًا في أفريقيا، كأسلوب خاص من أساليب محاولة إخماد المقاومة الوطنيّة، كما جرى أيضًا في بلدان عديدة مثل إثيوبيا التي خضعت بدورها للاستعمار الإيطالي ما بين الحربَيْن، وناميبيا التي مرّت من الاستعمار الألماني، والجزائر قبل هذه الدول جميعًا.

يُضيف المؤلّف أنّه ليس من المبرّر معرفيًّا وسياسيًّا التّركيز على دراسة ظاهرة الإبادة على "الهولوكوست"، على الرّغم من أنّها تمثّل منظومة واحدة تجسّدت بطرق متشابهة خارج المجال الأوروبي، إلّا أنّ الأنظمة الديموقراطيّة الأوروبيّة المنتصرة في الحرب صمتت وتستّرت على كل ما ارتكبه النّظام الفاشي ضد الشّعوب من جرائم، بخلاف ما اتّخذته من إجراءات ومحاكمات ضد النّظام النّازي، بمقتضى مواجهة الحزب الشّيوعي الإيطالي حينها، والذي كان يمثّل أقوى أحزاب اليسار في أوروبا وبالتّالي كان المرشّح الأقوى لاستلام السّلطة في إيطاليا على حساب بقايا الفاشيّة وغيرها من القوى اليمينيّة المعاديّة لليسار والمستعدّة للتّحالف مع الإمبرياليّة المنتصرة في الحرب.

يدعو الكاتب إلى إعادة التّفكير في الأبحاث والدّراسات الاستعماريّة وتقديم رؤية متحرّرة من الهيمنة الأوروبيّة

المؤسف حقًّا بتعبير الكاتب، هو انخراط الجامعات الإيطاليّة والأوروبيّة والأميركيّة في هذا الصمت، وعدم الاهتمام بجرائم الفاشيّة الإيطاليّة، بخاصّة أنّ معظم الباحثين الذين اهتمّوا بجريمة الإبادة الجماعيّة من اليهود من أمثال جورجيو أغامبين وبريمو ليفي ورافايل ليمكين صاحب مصطلح الإبادة الجماعيّة، وحنّة أرِندت التي خَلصت في بحثِها إلى أنّه "لا توجد مسألة يهوديّة في إيطاليا الفاشيّة"، وكأن حقل اهتمام جميع هؤلاء لا يخرج عن حدث "الهولوكوست" دون غيره ليجعلوا منه جريمة فريدة لا تدانيها أو تشبهها في البشاعة أيّ جريمة أخرى في التّاريخ، في حين يعتبر الكاتب أنّ عمليّات الإبادة الجماعيّة هي ممارسة استعماريّة طُبّقت خارج أوروبّا وسبقت زمنيًّا "الهولوكوست"، وعلى خلفيّة ذلك يدعو الكاتب في خاتمة الكتاب إلى إعادة التّفكير في الأبحاث والدّراسات الاستعماريّة والمتمركزة أوروبيًّا وتقديم رؤية جديدة متحرّرة من الهيمنة الفكريّة والمنهجيّة الأوروبيّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن