عندما نجزم بقلّة عدد المثقّفين العرب من هذه النوعيّة، فلأنّنا نزعم بأنّهم لم يستطيعوا إلّا نادرًا المساهمة في رفع بعضٍ من نُقط التباس هذا الزّمن الرّديء، لا سيما في ما يتعلّق بالقضايا الإشكاليّة الكبرى. ولعلّ أولى هذه القضايا الإشكاليّة، إشكاليّة الدّيموقراطيّة، وما يترتّب عنها من تداعيّات على مستوى الفرد والجماعة، على مستوى الاقتصاد والمجتمع وعلى مستوى العمران العربي بوجهٍ عام.
الأنظمة التي حكمت الوطن العربي استنبتت "مثقّفين" موالين لها أكثر ما أفرزت مثقّفين مهووسين بالهمّ العامّ
لا نلمّح بهذه النّقطة إلى القول إنّ المثقّف العربي قد كان أو لا يزال مقصّرًا في التّأكيد على مركزيّة المسألة الدّيموقراطيّة - تنظيرًا على الأقل - بل التّلميح يروم عدم تمكّنه من تأصيلها، من موطِنتها في الذّهنيّات القائمة، وجعلها سلوكًا جماعيًّا، دونها ودون ذلك التّسلط والقمع والاستبداد.
ويبدو أنّ السرّ في هذا كامن في نجاح الأنظمة السياسيّة التي حكمت الوطن العربي طيلة السّتين سنة الماضيّة، في استنبات "مثقّفين" موالين لها - موالين للسّلطان أقصد - أكثر ما أفرزت مثقّفين مهووسين بالهمّ العامّ، منغمسين في قضاياه. ولهذا السّبب، رأينا ولا نزال نرى "مثقّفين" يُبرّرون للسّلطان سلوكيّاته، يدافعون عن ممارساته، ولا يتوانون في النّطق باسمه، عوض أن يكونوا ناطقين باسم الذين هم عرضة بطشه وظلمه وفساده. حتى عندما يغيّب الموت السّلطان، يبدأون في نسج الحبائل من جديد، بغرض التقرّب من صاحب الأمر الجديد، لتعود الأمور إلى حالتها الأولى، حالة الصّفر.
المثقّفون الملتزمون يصيبهم الغبن والإحباط فينعزلون أو يرحلون
ليس كل المثقّفين من هذه الطّينة، ولا جلّهم من الذين يتطلّعون للتقرّب من السّلطان لهذا الغرض أو ذاك، وغالبًا ما يكون الغرض الأساس تحصيل مغنمة أو التمتّع ببعض مزايا السّلطة، لكن الغالبيّة العظمى منهم هي من الطّينة إيّاها. أمّا ما سواهم، أي المثقّفون الملتزمون، فيصيبهم الغبن والإحباط والتذمّر، فينعزلون جملةً وتفصيلًا، أو يرحلون إلى فضاءات أخرى، أو يُهادنون السّلطان بصمتهم، مخافة غضبه وبطشه ولجوئه إلى آليّة قطع الأرزاق في حقّهم أو في حقّ من يلفّ لفّهم.
لقائلٍ يقول: هل من السّليم التّحامل على المثقّف العربي بهذا القدر، وتحميله كل هذا الوزر، هو الذي لا قدرة لديه كبرى على مواجهة صاحب القرار، ولا سلطة سياسيّة له لترجمة ما يتصوّر، ولا قاعدة جماهيريّة تدعم اختياراته، في مجتمع تسوده الأمّية والجهل وينخر مفاصله الفساد والظّلم؟ أليسَ من التجنّي، يتابع المتسائل، الإشارة إلى مثقّفٍ هو بالبداية وبالمحصّلة النّهائيّة، ضحية للحصار أو للإقصاء أو للتّكفير أو للقتل، كلما تجاوز الخطوط المرسومة، أو ناهض قرار السّلطان، أو زايد عليه، أو أشار إلى تجاوزاته أو تجاوزات الحاشيّة الدّائرة في فلكه؟
هي استفهامات وجيهة وموضوعيّة، كونها تضمر في جوفها عناصر الجواب، إذ المثقّف العربي غالبًا ما يستسهل حالة الدّفاع وردّ الفعل، ويفضّل ركوب ناصية مسالَمة النّظم الكليانيّة القائمة، عوض الجنوح إلى مواجهتها أو مناهَضة سلوك أركانها ومكوّناتها، حتى في إدراكه لتجاوزاتها، وطغيان الظّلم والقمع من بين ظهرانيها. إنّه غضّ للطرف بائن من لدنه عن العديد من سلوكيّاتها، إمّا درءًا لأذاها، أو مجاملةً لها عن بُعد، بغيّة تثمين مصلحةٍ ذاتيّة أو درء مفسدة قد تصيبه في مقتل.
المثقّف من هذه النوعيّة يستحلي ما يُغدقه عليه السّلطان من عطايا وهدايا وامتيازات، لا بل وما يبوِّئه إيّاه من مركز رمزي، يضمن له رغد العيش ويحميه من فاقة المعاش. لذلك، تجده لا يخجل من التنكّر لرسالته، واندغامه في "رسالة" السّلطة قلبًا وقالبًا. إنّه لا يتنكّر فقط لدوره كسلطة مضادّة بطبيعتها، بل يتبرّم من التّواجد في الفضاء العام المُتاح، مخافة غضب السّلطان أو إثارة غضب أركانه.
تجسير الفجوة يستوجب مثقفًا صادقًا وسلطانًا متنوّرًا
سيبقى المثقّف العربي والحالة هذه، مسلوب الإرادة والذّات، ليس بوجه صاحب السّلطة والمال والجاه وحسب، بل وكذلك بإزّاء قاعدته الرّمزية الأصليّة، التي تضمن له البقاء والاستمراريّة وتفتح له في مسالك الخلود.
قد لا يكون المطلوب من المثقّف الملتزم، وضع الحلول والعمل على صياغة سبل ترجمتها على أرض الواقع، فذاك أمر الخبير والتّقنوقراطي. لكنه مطالب بتشريح الواقع بدقّة، وتعيين مكامن الخلل من بين ظهرانيه وتحديد الرّؤى الكبرى الكفيلة بتجاوزه. هنا ينتهي دوره وتنحصر وظيفته، لتبدأ وظيفة صاحب القرار بنيةً وبنيانًا. تجسير الفجوة بين الطرفين ليس هيّنًا. إنّه يستوجب مثقفًا صادقًا وسلطانًا متنوّرًا، صاحب رؤية.
(خاص "عروبة 22")