غير أنّ الحداثة وسيرورة التحديث (من حيث أنّ التحديث إرادة وجهد متصل من أجل تشييد صرح الحداثة) وإن كانا، ولا مراء في ذلك، يتصلان بالغرب فإنهما، في العمق، ثمرة جهد لا يتّصل بالغرب وحده. ليس من الضروري لكلّ المجتمعات البشرية أن تمرّ بالمراحل عينها التي مرّ بها ذلك الغرب، فالتاريخ ومنطقه يقضيان أنّ ذلك أمر غير ممكن الوقوع. وهذه المسألة هي ما يستهدف حديثنا اليوم التنبيه إلى بعض جوانبها.
بيد أننا قبل ذلك، في حاجةٍ إلى توضيح نقطة جوهرية هي أننا لا نريد الخوض في "روح الحداثة" من حيث هي الخلاصة التجريدية لمسار كلّ من الفكر والمجتمع في الغرب الأوروبي. ليس غرضنا القول في "بنية تلك الروح" (على النحو الذي وقف عنده يورغن هابرماس في العديد من دراساته على سبيل المثال) إذ إنّ ما يعنينا هو التنبيه إلى أنّ "الحداثة" صورة للوجود البشري ليس من الضروري (بل وليس من الممكن تاريخًا ومنطقًا معًا) أن تكون مقتصرة على الغرب الأوروبي وحده، فهذا أمر يرفضه منطق التاريخ البشري منظورًا إليه في كليته، وهذا من جهة أولى. ثم، من جهة ثانية، إنّ الأخذ بالحداثة وأسبابها (وكذا تجلياتها في مستويات الوجود المادي للبشر) أمر في غير حاجة إلى توضيح، والأحقّ أن يقال عنه إنه من قبيل تحصيل الحاصل. نحن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إنه لا وجود اليوم ممكن في العالم لدولة لا تأخذ بأسباب الحداثة في مستويات التنظيم الإداري والمؤسساتي (من حيث الظاهر على الأقل).
في العالم العربي قبولٌ للحداثة تقنياتٍ ووسائل، ورفضٌ لها روحًا وانخراطًا
لا، بل نحن نقول إنّ الدول والأنظمة السياسية التي تجعل من لعن الحداثة وإلصاق كلّ تهم الفساد والسلبية بالحداثة عقيدة تأخذ بها لا تملك أن تتخلّى عن نتاج الحداثة وتجلّياتها في مستويات التنظيم الإداري والعسكري والأمني، فضلًا عن التجاري والاقتصادي عامة. لا نعرف دولة واحدة، من بين كل الدول التي تجعل من لعن الغرب عقيدة لها ومن الحديث عن الغرب المتفسّخ، الكافر، العفن (وما واكب ذلك من النعوت والأحكام) لا تأخذ بالحداثة في مستويات الوجود المادي وفي الأمور التي تتصل بالدولة وتسيير شؤونها. الحق أنّ اللعن والشتم يتعلقان بالحداثة، من حيث أنها روح وليس من جهة أنها جملة من التحولات والابتكارات في مجالات الوجود المادي والاجتماعي والاقتصادي.
يصحّ القول، في عبارة أخرى إنّ الأمر يتعلق، في الموقف من الحداثة، بالتأرجح بين قبول للحداثة قبولًا تامًا مطلقًا، من حيث أنّ الحداثة تتصل بتسهيل وتنظيم شروط الوجود المادي، ورفض لها من حيث أنها "روح" وإرادة فعلية للتحديث شرطًا لتحقق الحداثة. ولعل هذه الحال (قبول الحداثة تقنيات ووسائل ورفضها روحًا وانخراطًا في سيرورة التحديث) هو ما نجد عليه العالم العربي صورة له، في الأغلب الأعمّ من سلوك دوله ومواطنيه. كذلك هو الشأن بالنسبة لغير قليل من دولنا، وكذلك هو الحال عند حال جمهرة غير قليلة من الناس في عالمنا العربي (ولعلّي فقط أخجل من الحديث عن الأغلبية العددية من مواطني عالمنا هذا). والسؤال هو: لمَ كان الشأن عندنا كذلك؟
هناك "أسئلة جوهرية" تتصل بالوجود الفكري للعرب في عالمنا المعاصر
للحداثة، من حيث أنها روح وتجليات لتلك الروح معًا، صور شتى نذكر منها (في الجانب المتصل بالوجود الاجتماعي للبشر ونظمه وتنظيماته): التمييز بين الشأن العام والمجال الخاص وتعين عمل وجور كل منهما. التمييز، في تدبير الشأن العام، بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، تنظيم العلاقة بين العقل والسياسة من جانب أول، والعقل والدين من جانب ثان. نعم، هناك بطبيعة الأمر أسئلة عديدة أخرى، ليست أقل جوهرية تتصل بالوجود الفكري للعرب في عالمنا المعاصر.
أين نحن اليوم من امتلاك روح الحداثة وبالتالي من القدرة على الولوج الفعلي لأزمنة الحداثة؟ نكون أو لا نكون: السؤال المحوري الدي يلاحقنا ولا يبدو أننا نحفل به.
(خاص "عروبة 22")