العرب والتحوّلات الاستراتيجية

نحو استراتيجيّة مستقبليّة للحضور العربي (2/2)

بعد اختفاء تعاريف الإنسان الواحد تلو الآخر، كتعريفه بالعقل، وبصورة الله، وبالأنا أفكّر، وبالأنا موجود المناهض للتّفكير، تمّ تنصيب الإنسان ماهيّةً للوّجود وليس العكس، حيث صار هو الذي يُملي عليه حقيقته، وهو ما تجسّد أخيرًا في تحويل الوّجود إلى تقنيّة ذكيّة.

نحو استراتيجيّة مستقبليّة للحضور العربي (2/2)

بعبارة أخرى، بعد أن انتقل الفكر البشري من القول بأصالة الماهيّة إلى أصالة الوجود، ثم إلى أصالة الإنسان، انتهى إلى الإقرار بأصالة "العقل الآلي" المشهور حاليًّا باسم الذّكاء الاصطناعي. هكذا نلاحظ كيف أنّ الآلهة ولواحقها اختفت من الوجود، وحلّت محلها الآلات والتّقنيّات والبرامج والخوارزميّات. فمثلًا بعد أن كان الأشاعرة يقولون بأنّ لا فاعل إلّا الله، وبعد أن كان بعض المتصوّفة يقرّرون ألّا موجود إلّا الله وأنّ ما عداه خيال في خيال، صار علماء الثّورة الرّقميّة يقولون اليوم بأنّ لا وجود إلّا للواحد ولعلاقاته بآحاده.

أجل، لا يمكن إنكار أنّ الثّورات الرّقميّة حققت إنجازاتٍ مدهشة للإنسان، كما حلّت كثيرًا من مشكلاته المستعصيّة، وغيّرت علاقته مع الطّبيعة، إلّا أنّها أفضت في الوقت عينه إلى إخضاعه لضروب من الاسترقاق، وإلى تعطيل جوانب من إنسانيّته والاستغناء عن قدراته العقليّة، وتشجيعه على التقاعس باللّجوء إلى ضروب من التزييف والانتحال.

على الجامعات ومراكز البحث العلمي العربيّة أن توطّد علاقات تبادل الخبرات وإنجاز مشاريع مشتركة 

أمام هذا الاسترقاق الشّامل الذي تمارسه العقول الرّقميّة الفعّالة، سيكون على الاستراتيجيّة العروبيّة أن تبحث عن إمكانيّة القول بتنوير رقمي تكون مهمّته هذه المرّة التّصدي للمؤسّسات الرّقميّة العملاقة التي تفرض وصايتها ورقابتها على الإنسان بطرقٍ مبتكرة من بينها الذّكاء الاصطناعي وشبكات التّواصل الاجتماعي التي تنشر من بين ما تنشره ثقافة "التفاهة والميوعة"، وليست مواجهة المؤسّسات الدينيّة العتيقة التي اعتادت أن تفرض وصايتها على الإنسان؛ كما تقع على عاتق هذا التّنوير الرّقمي مسؤوليّة نشر الوعي بالمخاطر المحدقة يوميًّا بالإنسان جرّاء الاستعمال المفرط لآلات وبرامج الذّكاء الاصطناعي، والحثّ على مزاولة التّفكير بشكّه وتساؤله ونقده. ولا شكّ أنّ التّعاون بين العلوم الإنسانيّة والعلوم البحثيّة سينفع في التّحريض على اليقظة الفكريّة.

ونعتقد أنّ الجامعات والمعاهد والمختبرات والمجامع اللّغويّة والأكاديميّات العلميّة والفلسفيّة في العالم العربي هي التي ينبغي أن تتولّى مهامّ الدّفاع عن الإنسان وصون كرامته والحيلولة دون تخديره بتفاهات شبكات التّواصل الاجتماعي. وهذا لن يتأتّى لها إلّا بتخويلها كل الإمكانات اللّازمة لمواكبة الطّفرات الكثيرة للثّورة الرّقميّة، وتقليص الفجوة بينها وبين الجامعات الغربيّة والآسيويّة بالانفتاح عليها ومجاراتها والتّنافس معها في الجودة والابتكار.

وقبل ذلك، على الجامعات ومراكز البحث العلمي العربيّة أن توطّد علاقات تبادل الخبرات وإنجاز مشاريع مشتركة سواء بالنّسبة للمشاكل المطروحة على المستوى العالمي أو على مستوى المشاكل المحليّة كالطّاقة والجفاف وندرة المياه... إلخ. ولا يمكن أن تقوم المؤسّسات العلميّة بهذه المهامّ ما لم تتوفّر لها حرّية البحث العلمي والعمل بمبدأ الصّدق والكفاءة العلميّة الحقّة، والامتثال للأخلاق الأكاديميّة.

الوحدة هي الشرط القَبْلي لأي استراتيجيّة طموحة لبناء الحضور العروبي الفعّال

ولا شكّ أنّ تطوير المؤسّسات الجامعيّة لا يمكن أن يتحقّق من دون تطوير اللّغة العربيّة، لا بإنشاء المزيد من المؤسّسات التي تُعنى بالمعاجم وتطويرها لمواكبة تطوّر لغات العلوم الحديثة من أجل توطين العلوم والتّقنيّات الحديثة، ولكن بالعمل على توحيد مجهوداتها قدر الإمكان. والاهتمام باللّغة العربيّة لا يعني الانغلاق اللّغوي، فتبنّي اللّغات الأجنبيّة ويخاصّة اللّغتين الإنكليزية والصّينية أمرٌ ضروريٌ وحيويٌ بالنّسبة لإنجاز استراتيجية التّحدي.

وأكاد أقول بأنّ الوحدة هي الشرط القَبْلي لأي استراتيجيّة طموحة لبناء الحضور العروبي الفعّال. لكن لا الوحدة من النّوع الناصري - البعثي ذات البُعد الشّمولي الواحد التي تم رفعها إلى مرتبة العقيدة اللّاهوتيّة التي تستهين بكل ما له صلة بقيم الاختلاف والحرّية والعقلانيّة والدّيموقراطيّة؛ ولا الوحدة من النّمط "الإخواني"، "وحدة الأمّة الإسلاميّة"، ذات الطّبيعة اللّاهوتيّة التي تحبّذ النّقل ضدّ العّقل، وتنتصر للجبريّة ضدّ الحريّة، وللتّفاوت بين النّاس ضدّ المساواة، وللعقيدة ضدّ الثّقافة والسّياسة؛ في مقابل هاتين الوحدتين نقول بوحدة منفتحة ومتعدّدة، قادرة على احتواء مختلف الانتماءات الثقافيّة واللّغويّة والفكريّة والاجتماعيّة، وحدة لا تفرض علينا رؤية وحيدة للعالم، أو تُجبرنا على التقيّد بالتّدبير السّياسي عينه للدّولة، أو الانتماء عينه إلى عِرق أو إثنية واحدة، ذلك أنّنا نؤمن بأنّ تدبير الاختلاف بالتّشاور العقلاني هو الذي يضمن التئام الجميع في كتلة تاريخيّة متراصّة تضمّ أكبر عدد من الحساسيّات الفكريّة والسياسيّة، كما هي الحال في الاتّحاد الأوروبّي.

الديموقراطية الحقّة القائمة على احترام الاختلاف والتشاور العقلاني والعدالة الاجتماعيّة هي أداة توطيد الوحدة

ولنأخذ العبرة من نجاح شباب "الرّبيع العربي"، الذي لم يَصدُر عن منظومة وحدويّة متراصّة، وإنّما عن "وحدة" افتراضيّة رخوة لشبكات التّواصل الاجتماعي، وحدة "خفيفة الوجود"، ومع ذلك استطاع هذا الشباب أن يجمع آفاقًا متباينة ويُحدِث تغييرًا كبيرًا في مدّة قصيرة. لكن إذا كان التّخفيف من وطأة الوحدة من شأنه أن يجعلها قادرة على استيعاب الجميع في "كتلة تاريخيّة" جامعة من الدّول، فإنّ الديموقراطية الحقّة، القائمة على احترام الاختلاف والتشاور العقلاني والعدالة الاجتماعيّة هي أداة توطيد هذه الوحدة.

نخلص ممّا سبق إلى أنّ إعادة النّظر في مفهوم "العروبة" سيكون مطلبًا مُلِحًّا لكل استراتيجيّة استشرافيّة للوجود العربي القوي على المستوى السياسي؛ ونعني بذلك أنّ على العالم العربي، الذي يزخر بثراء ثقافي ولغوي وعِرقي هائل، أن يستثمره في اتجاه تخويل هذه الموارد الثّقافيّة واللّغوية كل الإمكانات لتطوير طاقاتها والتعبير عن نفسها في إطار مواطَنَة متساوية فعّالة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن