تحتلّ بلاد الشّام موقعًا جغرافيًّا مركزيًّا تُحسد عليه، ولكنّ هذا الموقع وكذلك الطبيعة الجغرافيّة للبلاد كانا نعمةً ونقمةً في الوقت عينه.
تتوسّط سوريا الشّرق الأوسط الذي يتوسّط بدوره العالم القديم، إذ تقع بلاد الشّام بين مصر والعراق وآسيا الصّغرى، وكانت سوريا أفقر في الموارد الزّراعيّة من هذه الأقطار، وهذا جعل وزن التّجارة والحِرَف بسوريا مركزيًّا وأكبر من وزنِه في حضارات الشّرق الأخرى التي اعتمدت أكثر على الزّراعة ودور الحكومة المركزيّة. هذه الجغرافيا، جعلت البلاد عُرضةً لغزواتٍ وتدخّلات القوى الخارجيّة الأكبر.
الطبيعة الجغرافيّة السوريّة عرقلت بناء دولةٍ قوميةٍ موحّدة
في المقابل، ازدهرت الحياة "المدينيّة" بسوريا أكثر من حضارات العالم القديم، بل إنّها غالبًا كانت صاحبة واحدة من أعلى نسب سكّان المدن في العالم القديم حتى القرن الثامن عشر متفوّقةً على فرنسا وبريطانيا، وبنسبٍ تُقارب إيطاليا، كما كان متوسّط الدّخل في مُدنِها لقرون أعلى من المعدّلات العالميّة بفضل فوائض التّجارة الدّوليّة.
ولكن الطبيعة الجغرافيّة عرقلت بناء دولةٍ قوميةٍ موحّدة مثل مصر القديمة وبلاد الرّافدين. فسوريا من أكثر بلدان الشّرق الأوسط تعقيدًا في الجغرافيا، وهي تتكوّن من عدّة أقاليم أوّلها ساحل له طابع مديني مزدهر في أوقات صعود التّجارة البحريّة، ولكنّه كثيرًا ما كان يخضع للجبل، الذي يُعدّ منطقةً ذات طبيعة خاصّة حيث كان عصيًّا نسبيًّا على الغُزاة، وكان ملاذًا للأقليّات مثل الدّروز والعلويّين، وكان سكّانه ذوي طبيعة حربيّة، وحريصين على إبقاء عزلتهم الدّينيّة والسّياسيّة قدر المستطاع، ولكن في الوقت عينه يعانون من قلّة موارد الجبل الاقتصاديّة.
المنطقة الثّالثة هي الجزيرة والبادية في الشّرق، والبادية السّوريّة هي مصدر الهجرات السّامية التي شكّلت تركيبة البلاد السكّانية وبثّت قدرًا من روح التّمرّد في طباعها تُضاف للرّوح التّجاريّة السّائدة.
مالت الإمبراطوريّات لتقسيم سوريا إداريًّا وخلق ذلك فوارق اجتماعيّة بين البادية والجبال والمجتمعات المدينيّة والزّراعيّة
أما المنطقة الرّابعة والأكثر أهميةً فهي الأحواض السّهليّة الواقعة بين الجبال الجنوبيّة والغربيّة وبين البادية، وفي هذه الأحواض نشأت مدن سوريا الأربع العريقة دمشق وحمص وحماة وحلب، ولكن لأنّ البلاد ليس فيها نهر رئيسي مثل العراق ومصر، باستثناء العاصي، ولأنّ الرّيْ اعتمد فيها على خليط من المياه الجوفيّة والسّطحيّة والمطريّة المناطقيّة، فإنّ سوريا لم تعرف حكومةً مركزيّةً قويّةً ولا دولةً موحّدةً تُنظّم الرّيْ مثل مصر والعراق، بل كانت تدير مدن البلاد عادةً نُخب المُدن التّجاريّة أو تحالفات عشائريّة، خاصّة أنّ وزن هذه المدن كان متقاربًا، الأمر الذي حال دون قدرة أي مدينة أو إقليم على توحيد البلاد مثلما فعل "مينا نارمر" في مصر، وعلى الرّغم من ذلك كانت هناك هُويّة إثنيّة شاميّة موحّدة مثل العمّوريّة ثم الآراميّة وبعدها العربيّة.
كذلك مالت الإمبراطوريّات المُتعاقبة وآخرها العثمانيّة لتقسيم سوريا إداريًّا لأجزاء متعدّدة، وخلق كلّ ذلك استقلالًا مجتمعيًّا، مع انتماءاتٍ محلّية قويّة على أساسٍ طائفي ومناطقي، كما خلق فوارق اجتماعيّة بين المجتمعات ذات الطّبيعة الحربيّة في البادية والجبال وبين المجتمعات المدينيّة والزّراعيّة الأكثر سلميّة بالسّهول.
كيف انتقلت السّلطة في سوريا الحديثة من التّجار لأبناء وجهاء الرّيف؟
عندما استقلّت سوريا بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، كانت النُخب الحاكمة تنحدر من الطّبقة التّجاريّة بالمدن، وفي الخمسينيّات كانت سوريا تبدو واعدةً اقتصاديًّا، إذ كانت من أفضل الدّول العربيّة من حيث مستوى التّعليم والانفتاح والتّجارة والإنتاج مع وجود طبقتَيْن فاعلتَيْن من الحِرفيّين والتّكنوقراط، والأهمّ كان لدى سوريا طبقة قويّة من التّجّار المحليّين التي كانت تتحوّل تدريجيًّا لطبقة رجال أعمال قادت نموًّا بالزّراعة والصّناعة بطريقةٍ لم تتوفّر لأغلب دول العالم الثّالث آنذاك، بحيث يمكن القول إنّ سوريا كانت لديها فرصة تبشّر بتحقيق نهضة رأسماليّة مماثلة للنّمور الآسيوية.
ولكن في المقابل، كانت هناك أزمة في الجوانب الاجتماعيّة والسّياسيّة.
ففي مقابل الثّراء اللّافت للإرث الاقتصادي والثّقافي والاجتماعي لسوريا قبيل حكم "البعث"، وعلى الرّغم من أنّ الثّقافة التّجاريّة للمجتمع تفترض انتقال العقلانيّة من التّجارة للسّياسة، كان الخطاب السّياسي السّائد قوميًّا مفرطًا في الحماسة لدرجة التهوّر أحيانًا، وضاغطًا على السّاسة بمن فيهم ساسة الدّول العربيّة الأخرى وورّطهم في مغامراتٍ محفوفة بالمخاطر، والحقيقة أنّ تبنّي مجتمع تجاري عملي لهذه الحالة من الاندفاع السّياسي ظاهرة تكرّرت بتاريخ اليونان وإيطاليا ولبنان وهي أكثر الدول شبهًا بالبُنية الاجتماعيّة السّوريّة.
عمل "البعث" و"الشّيوعي" على اختراق الجيش مما جعله ساحةً للصّراعات السّياسيّة
وعلى الجانب الاجتماعي، كانت المدن السّوريّة من أعرق المدن على مستوى العالم، وهذا يعني أنّ سكّانها يمثّلون امتدادًا لوجود قديم للغاية له تقاليده العريقة عكس الكثير من مدن العالم التي تأسّست كمراكز سياسيّة استقبلت هجرات ريفيّة ضخمة خلال العصر الحديث، وهو ما خلق حساسيّة بين سكّان المدن السوريّة وبين سكان الأرياف الأفقر والذين كان منهم نسبة كبيرة من الأقليّات، كما أدّت هذه الفوارق لتزخيم الإيديولوجيّات اليساريّة التي اندمجت مع القوميّة العربيّة التي تعدّ سوريا موطنها الأصلي.
وعملت الأحزاب المتبنّية لهذا الخط لا سيما "البعث" و"الشّيوعي" على اختراق الجيش، مما أضعف احترافيّته وجعله ساحةً للصّراعات السّياسيّة، كما أنّ هذه الأحزاب على الرّغم من إيديولوجيّتها العلمانيّة كانت عضويّتها متأثّرة بالانتماءات الطائفيّة والمناطقيّة لقادتها، فكان الكثير من "النّاصريّين" من السُنّة بينما "البعث" ضمّ أعدادًا أكبر من الأقليّات، وانتقلت هذه الانقسامات للجيش.
وعلى الرّغم من أنّ النُخب الحاكمة عقب الاستقلال كانت من المدن، ولكن الجيش ضمّ نِسبًا مرتفعة من سكّان الأرياف، لأنّ سكّان الأرياف بمن فيهم العلويّون أقبلوا على الجيش لأنه وفّر لهم فرصة للصّعود الاجتماعي والمادّي، كما أدّت السّياسات الفرنسيّة خلال فترة الانتداب لتقوية الوجهاء الريفيّين في مقابل التّدهور المقصود لنظرائهم الحضريّين.
ونقل حنّا بطاطو في كتابه الشهير "فلاحو سوريا... أبناء وجهائهم الرّيفيّين الأقلّ شأنًا وسياستهم"، عن عبد الحميد السرّاج مدير المخابرات العسكرية عام 1955، أنّه في هذا العام كان ما لا يقل عن 55% من ضبّاط الصّف من العلويّين.
وفي الوقت عينه، انعكس التّنافس التّاريخي بين المدن، بخاصّة دمشق وحلب، على الصّراعات بين الضبّاط السُنّة التي جرت عبر الانقلابات المتعدّدة (قيل إنّها 14 انقلابًا)، وأدّى ذلك لإضعاف وزن الضبّاط السُنّة المنحدرين من المدن لصالح أبناء الأرياف من السُنّة والأقليّات، ثم بعد ذلك تحالف ضبّاط من الأقليّات إلى أن انتهت موجة الانقلابات بسيطرة حافظ الأسد على السّلطة.
هذا الحدث المدوّي يرجع لكل العوامل الجغرافيّة والاقتصاديّة السّابقة، ولكنّه أيضًا نتيجة دهاء الأسد النّابع من قدراته الشّخصيّة ومن ثقافته كابن لجبال السّاحل التي تجمع بين الصّلابة والمناورة وإبرام التّحالفات النّاجحة.
(خاص "عروبة 22")