كما هو متوقع، فإنّ هذه الاستراتيجيات تتناول في معظمها مواجهة العوامل التي كانت مسؤولة عن ظهور مشكلة الغذاء في المقام الأوّل[1]. لكن هذه الاستراتيجيّات هي أيضًا ذات طبيعة اقتصاديّة في الغالب، لأنّها لا تتعامل بشكل مباشر مع الجوانب الأخرى، مثل الجوانب القانونيّة وقوانين الأحوال الشخصيّة والملكيّة، التي يمكن أن تكون على القدر عينه من الأهمّية (على سبيل المثال، قانون الميراث في المجتمعات العربيّة الإسلاميّة، وكيف يؤدّي إلى تجزئة الملكيّة وحرمان اقتصاديّات الحجم والنّطاق في الزّراعة)[2].
يجب القيام بالمزيد من البحث والتّطوير لتعزيز التّكنولوجيّات المناخيّة الذّكيّة
1 - الحدّ من آثار النّزاعات المحليّة والإقليميّة والدّوليّة: يتمثّل الإجراء الأوّل والأهمّ بطبيعة الحال في إنهاء هذه النّزاعات من خلال إيجاد حلول دائمة لأسبابها الجذريّة. وإذا تعذّر ذلك يجب عندها حماية الأصول الزّراعيّة وإبقاؤها بمعزل عن النّزاع قدر الإمكان، بالإضافة إلى حماية البُنية التّحتيّة الدّاعمة التي ترافقها. ومن المفيد أيضًا التّنسيق الفعّال بين الوكالات الحكوميّة والمنظّمات الغذائيّة الدّوليّة/المنظّمات غير الحكوميّة الدّوليّة للتأكّد من أنّ الغذاء المتبرّع به موجّه بشكلٍ جيّد ولا يُستخدم كسلاح بين الخصوم. ولكن بمجرّد حلّ هذه النّزاعات، يجب أن تنطوي إعادة البناء على تخصيص استثمارات كبيرة للزّراعة لتعويض النّاتج المفقود والحدّ من التّبعيّة.
2 - تخفيف آثار تغيّر المناخ: هذا بالطّبع موضوع يكتسب أهميّة مع مرور الوقت. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تشجيع المحاصيل المقاومة للجّفاف وتغيّر المناخ. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن ينطوي ذلك على اتّخاذ تدابير تعكس النّقص في هطول الأمطار، مثل اعتماد التّنقيط المائي للريّ، وتجميع مياه الأمطار، وإعادة ملء طبقات المياه الجوفيّة الضّحلة. ويمكن أن تعتمد على أنظمة الإنذار المبكّر التي من شأنها أن تستبق التغيّرات المناخيّة وتستجيب لها بالتّدابير المناسبة. وما قد يساعد أيضًا هو القيام بالمزيد من البحث والتّطوير، إذا كان ذلك ممكنًا من الناحيتَيْن الماليّة والتّقنيّة، لتعزيز التّكنولوجيّات المناخيّة الذّكيّة.
يمكن الحدّ من التّبعيّة من خلال تعميق التّكامل الزّراعي العربي الذي يؤدّي لزيادة في التّجارة العربيّة البينيّة
3 - تحسين النّاتج الزّراعي واستخدام الحيّز الحضري: إنّ النّسبة المنخفضة من النّاتج الزّراعي العربي التي تأتي من محصول إنتاجيّة أدنى هي مؤشّر صارخ على ضعف الإنتاج. وهو ما يستدعي تطويرًا نوعيًّا وتكنولوجيًّا في الزّراعة العربيّة يشمل سلالات ذات إنتاجيّة أعلى، وأساليب تسميد أكثر كفاءة، وإدارة أفضل للمياه (بما في ذلك حفظها وإعادة استخدامها)، بالإضافة إلى محاصيل ذات قيمة مضافة أعلى مقاوِمة للملوحة والتّحميض. ولا يقلّ أهميّة عن ذلك ضرورة تنظيم وتخطيط الانتشار الحضري بشكلٍ أفضل لما له من تأثير كبير في الأمن الغذائي، حيث يشجّع غيابها أنماط الحياة وسبل العيش غير المستدامة، والأهمّ من ذلك يقيّد من استخدام الأراضي الزّراعيّة (القاحلة وشبه القاحلة).
4 - زيادة الائتمان المتاح للاستثمارات الزّراعيّة: وهذا أمر مهم بشكل خاصّ لصغار ومتوسّطي المزارعين الّذين عادةً ما يتمّ تجنّبهم من قبل أسواق الائتمان. فإتاحة هذا الائتمان اللّازم يسمح لهم بالاستثمار في مجموعة واسعة من تقنيّات تعزيز الإنتاجيّة. وعمومًا، يمكّنهم من التّحديث، وأن يكونوا جزءًا من الشّبكات اللّوجستيّة الزّراعيّة الجديدة وسلاسل التّوريد على الصعيدَيْن المحلي والدّولي. وبالقدر عينه من الأهميّة، فإنّه يعزّز ثقافتهم الماليّة وفطنتهم في مجال الأعمال التّجاريّة الزّراعيّة من حيث كيفيّة إدارة المخاطر ومجالس التّسويق وتقلّبات الأسعار بشكل أفضل.
الدّولة التّنمويّة لا يكون هدفها بقاء النّظام بل الانتعاش والرّخاء الاقتصادي
5 - تناقص الاعتماد على الواردات: لا يمثّل العجز التّجاري في الموادّ الغذائيّة في حد ذاته مشكلةً للأمن الغذائي على المستوى الوطني لأنّ العديد من البلدان تلبّي احتياجاتها الغذائيّة من خلال الاعتماد الجزئي على الأسواق الخارجيّة أو العالميّة. لكنّه كذلك في العالم العربي بسبب الاعتماد الكبير على الواردات المشار إليها أعلاه، وندرة النّقد الأجنبي اللّازم، بخاصّة في البلدان العربيّة الأقل نموًّا والبلدان العربيّة التي تعاني من النّزاعات.
وبطبيعة الحال، فإنّ الاستراتيجيّات التي تمّت مناقشتها للتّو، إذا ما تمّ تنفيذها، من شأنها أن تزيد من الإنتاج الغذائي العربي وبالتّالي تقلّل من الواردات الغذائيّة. ولكن، إذا ما أُخذت بمفردها، يمكن تعزيز تقليل عبء التّبعيّة من خلال بناء مخزونات احتياطيّة واستخدام المشتقّات الماليّة للتحوّط ضد تحركات الأسعار المعاكسة. والأهمّ من ذلك أنّه يمكن أيضًا الحدّ من التّبعيّة من خلال تعميق التّكامل الزّراعي العربي، حيث يمكن للتّكامل والتّنويع في الإنتاج العربي أن يحدّ من الاعتماد على الإنتاج الأجنبي والاستعاضة عنه، والذي يؤدّي بذلك لزيادة في التّجارة العربيّة البينيّة وفي ادّخار النّقد الأجنبي للدّول العربيّة والتجارة العربيّة.
6 - تعزيز الحوكمة السّياسيّة والاقتصاديّة: هذا هو الشّرط الأهمّ لأنّه من دونه لا يمكن تنفيذ الاستراتيجيّات المذكورة أعلاه بنجاح. وعلى هذا النّحو، فقد ثبت مرارًا وتكرارًا أنّ الأنظمة السّياسيّة واقتصادات السّوق المحكومة جيّدًا هي سبب أساسي للنموّ الاقتصادي المطّرد والازدهار[3]. وهذا يعني أن السّياسات (الاقتصاديّة أو غيرها) يجب أن تكون مضبوطة بالمؤسّسات والمعايير الديموقراطيّة، والأهمّ من ذلك يجب أن تخدم المصلحة العامّة. ويعني ذلك أيضًا، في السيّاق العربي، حكم الدّولة التّنمويّة التي لا يكون هدفها بقاء النّظام، بل الانتعاش والرّخاء الاقتصادي. ولا شك أنّ هذا الإحياء يجب أن يشمل وضع القطاع الزّراعي العربي على أُسُسٍ "سياديّة" أكثر.
"السّيادة الغذائيّة أو الزّراعيّة" تعني سيطرة العرب على أمنهم الغذائي واستقلالهم الزّراعي وتقليل الفقر
في الختام، يشكّل القطاع الزّراعي في العالم العربي حوالى 7% من النّاتج المحلّي الإجمالي، وهي نسبة لا ينبغي أن تكون أعلى من ذلك بالنّسبة لمجموعة ذات دخل منخفض إلى متوسّط مثل العالم العربي فحسب، بل هي أيضًا مثيرة للقلق لأنّ معظم الفقراء العرب ينتمون إلى هذا القطاع وهم في المناطق الرّيفيّة. ونقترح أنّ التّوجّه نحو "السّيادة الغذائيّة أو الزّراعيّة" العربيّة هو الطريق الصّحيح، لأنّ هذه السّيادة تعني المزيد من سيطرة العرب على أمنهم الغذائي واستقلالهم الزّراعي، وتقليل الفقر، وربّما توزيعًا أفضل للدّخل. ولكن ما لا ينبغي أن يعنيه هو الاكتفاء الذّاتي العربي في الزّراعة، لأنّ هذا الأخير ليس فقط غير قابل للتّحقيق، بل هو أيضًا ضدّ المنطق السّليم والمنطق الاقتصادي!.
لقراءة الجزء الأول
[1] اتحاد المصارف العربيّة، تحدّيات الأمن الغذائي في المنطقة العربيّة، 2024.
[2] كوران، ت. أسباب عدم تطوّر الشّرق الأوسط اقتصاديًّا: الآليّات التاريخيّة للرّكود المؤسّساتي، Journal of Economic Perspectives، صيف 2004.
[3] أسيموغلو وآخرون. لماذا تفشل الشعوب، 2013.
(خاص "عروبة 22")