المفارقة أنّ تلك المعادلة هي عينها مضمون عمليّة العَلمنَة، والتي تعني وضع حدود للتّديّن تحمي الحقّ في الاعتقاد، وكذلك الحقّ في الإلحاد.
في ظلّ حكم علماني تنتفي الحاجة إلى المبالغة في ممارسة الطّقوس فتنتفي ظاهرة النّفاق الدّيني
ومن ثم تخدم العلمانيّة الإيمان الرّوحي على مستويات ثلاثة أساسيّة:
أوّلًا، هي أداة تضمن للمُتديّن ممارسة اعتقاده بحرّية تامّة في مجاله الخاص من دون تديين للمجال العامّ عينه، أو اعتداء على المجال الخاصّ للآخرين.
ثانيًا، هي آليّة لضبط العلاقة بين أشكال الاعتقاد سواء بين الأديان المختلفة، أو بين المذاهب المختلفة داخل الدّين عينه، ما يقي الجميع من شرور الاضطهاد السّياسي.
وثالثًا، هي طريقة لغربلة الدّين من شوائب التديّن، ففي ظلّ حكم علماني تنتفي الحاجة إلى المبالغة في ممارسة الطّقوس، وإلى الادّعاء ظاهريًّا بما يناقض المستقرّ باطنيًّا، فتنتفي ظاهرة النّفاق الدّيني لدى أولئك الّذين يخشون من ضغوط المُحيط الاجتماعي، لأن المُلحد نفسه لم يعد يخشى الاضطهاد، بل صار قادرًا على التّصريح بإلحاده، مطمئنًّا لوجود إطارٍ قانوني يحمي ضميره في ظلّ دولةٍ مدنيّة على وجه الحقيقة وليس الادّعاء.
وهكذا تصبح العلمانيّة بمثابة آليّة لعمليّتَيْن متضادّتَيْن تصبّان في مجرى واحد هو ازدهار الشّخصيّة الإنسانيّة:
العمليّة الأولى، هي ترسيخ الإيمان الرّوحي لدى المتديّنين، الذين يشعرون، في سياق علماني، بعمق إيمانِهم لأنّهم اختاروا عقائدهم ومذاهبهم في ظلّ وجود متديّنين بعقائد ومذاهب أخرى، وكذلك في ظلّ ملحدين يرفضون الإيمان كلّيّةً، فالشّعور بالقدرة على الاختيار يذكّي الرّوح الإنسانيّة وينمّي الإحساس بالمسؤوليّة لدى الضّمير البشري إزّاء كل ما يعتقد فيه.
العمليّة الثّانية، هي تضييق مجال التديّن الظّاهري، بنفي الحوافز التي تترتّب عليه، ففي مجتمع طائفي قد يحمل الانتماء لطائفةٍ معيّنة مزايا ما، يُصبح من الطّبيعي أن يقصدها ضِعاف النّفوس، مبالغين في إظهار انتمائهم حصدًا للثمار. أو يفرض على طائفةٍ أخرى نوعًا من الضّغط، فيضطرّ أربابها لإخفاء انتمائهم إليها. أمّا في الدّولة العلمانيّة فلا خطر قائم من وراء التّعبير الحرّ عن الانتماء لطائفة الأقليّة، ولا غنيمة ممكنة من وراء المُبالغة في الانتماء لطائفة الأغلبيّة.
العلمانيّة المعتدلة التي تسعى إلى علمنة السّلطة هي الطّريق الأمثل لازدهار الشّخصيّة العربيّة
إنّه الفهم الذي يجعل من الإيمان واقعة داخليّة، تمسّ الجوهر الباطن للإنسان، تتعلّق بقدرة الرّوح على تشوّف القداسة في العالم بغضّ النّظر عن اسم الدّين ومضمون الاعتقاد. ولعله الفهم ذاته الذي كان أكّد عليه جان جاك روسو قائلًا: "إنّ دين الإنسان لا يعرف الهياكل أو المذابح أو الطّقوس". وما يعنيه روسو بدين الإنسان، كنقيض لدين الكاهن، هو نفسه ما نعنيه بحرّية الضّمير التي نصرّ عليها باعتبارها نقيضًا للتديّن الطّقوسي الذي يذكّي المذهبيّة والطائفيّة. إنّه المعنى ذاته الذي كان عبّر عنه توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة وثاني رؤسائها، بقوله: "أنا بحدّ ذاتي فرقة دينيّة"، وهو المعنى الذي كرّره توماس بين، صاحب كتاب "عصر العقل" المؤسِّس للتّنوير الأميركي، عندما صرّح: "فكري هو كنيستي". لم يقصد الرّجلان بالضّرورة أن يشكّل كل فرد كنيسةً مستقلّة، بل أن يتمتّع كلّ إنسان بكامل فرديّته، وأن يعتصم بضميره وحده، عند اختيار معتقده، وأن يقرّر الكيفيّة التي يمارس بها ذلك المعتقد، أو حتّى عند رفض جميع المعتقدات، دونما ضغوط سواء من المجتمع الذي يحطّ به أو من سلطات الدّولة التي ينتمي إليها، وهي الرّؤية التي تجسّد ذروة الفردانيّة الرّوحيّة، وتكشف مثلًا عن جوهر العلمانيّة الأميركيّة، حيث العلاقة ممكنة وقويّة بين أمّة المؤمنين بالإنجيل، ودولة المؤمنين بالحرّية.
وعلى هذا، نتصوّر أنّ العلمانيّة، خصوصًا في صيغتها المعتدلة، التي تسعى فقط إلى علمنة السّلطة، بالفصل بين التديّن وبين نظام الحكم، وليس في صيغتها الرّاديكاليّة، التي تسعى إلى علمنة الأخلاق مع السّلطة، وترفض أي تبرير للحياة يتجاوز المادّي والمحسوس والدُنيوي، إنّما هي الأقدر على صيانة الضّمير الإنساني، والحفاظ على توهّج الإيمان الرّوحي ضد كل أشكال القهر: مخالب الكنيسة الكاثوليكيّة وسيوف محاكم التّفتيش، ضغوط جماعات "الحريديم" على المدنيّة العلمانيّة، ظواهر العنف العدمي التي تمارسها الحركات السنّية المتطرّفة باسم الجهاد، ودولة الولي الفقيه الشّيعيّة بذريعة تصدير الثّورة، ومن ثمّ فهي الطّريق الأمثل لازدهار الشّخصيّة العربيّة.
(خاص "عروبة 22")