اقتصاد ومال

الجذور الجغرافيّة والاقتصاديّة للأزمة السّوريّة (2/2)كيف وجّه الفساد وتدهور الاقتصاد الضّربة القاضية لحُكم الأسد؟

كان وصول حافظ الأسد للرّئاسة عام 1971 نقطةً مفصليّة في تاريخ سوريا، ليس فقط لانتمائه للأقلّيّة العلويّة التي عانت تاريخيًّا من التّهميش الاجتماعي والاقتصادي، ولكن أيضًا لأنّه أسّس أوّل نظام مركزي بهذه القوّة والقسْوة في تاريخ البلاد، ليكون الوحيد الذي أنهى الاستقلال الذاتي للمجتمعات السّوريّة الذي يعود إلى آلاف السّنين.. فحتّى معاوية بن أبي سفيان مؤسِّس الخِلافة الأمويّة كان حكمه مستنِدًا لتحالف قبائل عربيّة شاميّة.

الجذور الجغرافيّة والاقتصاديّة للأزمة السّوريّة (2/2)
كيف وجّه الفساد وتدهور الاقتصاد الضّربة القاضية لحُكم الأسد؟

لكن الاقتصاد كان دومًا معضلة الأسد، إذ حدث تراجع اقتصادي تدريجي نتيجة عزلة البلاد النّسبية عن دول الخليج والغرب والحروب الخارجيّة.

كما أنّ تطبيق الاشتراكيّة في سوريا البلد الذي اخترع التّجارة العابرة للحدود، فاقم مشكلات الاقتصاد، وأغضب طبقة التّجّار، والهبّات التي وقعت في الثّمانينيّات لم تكن لأسبابٍ طائفيّة أو جرّاء تحريض "الإخوان" فقط، بل أيضًا نتيجةً لفرض قيود على التّجارة، ولكن مرةً ثانيّة استفاد الأسد من منافسات المُدن السّوريّة، فلم ينضم تجّار دمشق للعصيان ضدّه وتنَحّت حلب جانبًا، لينفرد بحماه، وهذا التمرّد الذي كان قوامه لحدّ كبير من الحِرفيّين والتّجّار كان محكومًا عليه بالفشل لأنّها طبقات بطبيعتها لها حسابات مرتبطة بمصالحها، كما لم يشهد مشاركةً واسعة من الرّيف، إضافة إلى أنّ قيادة "الإخوان" له نفّرت قطاعاتٍ واسعة من السّوريّين بمن فيهم السُّنّة، بخاصّة أنّ الأغلبيّة السّنّيّة لا تميل للعنف، وليس لديها تاريخيًّا عصبيّة مذهبيّة مثل الأقلّيّات.

الاقتصاد... معركة لم يكسبْها آل الأسد يومًا

قام الأسد بمحاولة تحديث شبه قسْريّة لعلمَنة المجتمع السّوري ووأد الرّوح الطّائفيّة خصوصًا لدى السُّنّة، ولكنّ الضّعف الاقتصادي جعل التّحديث محدود الفعّاليّة، ويكاد يكون قاصرًا على علمَنة جزْئيّة وحداثة شكليّة تتركّز في أوساط "البعث" وبعض المؤسّسات الحكوميّة، بينما لم تتأثّر نسبة كبيرة من سكّان المُدن، بخاصّة المُتوسّطة والصّغيرة والأرياف، بذلك، وهي المناطق الّتي ستكون وقودًا للثّورة ضدّ النّظام.

كما أنّ المَحسوبيّة الحزبيّة والطّائفيّة وتوسُّع الحكومة، مع التّعثّر الاقتصادي قلّص قيمة الرّواتب الحكوميّة، وهو ما أدّى لتفاقم الفساد.

في التّسعينيّات، تحسّن وضع النّظام بفضل مشاركته في حرب "تحرير الكويت"، وإضعاف أبرز أعدائه صدّام حسين، وتقارُب الأسد أكثر مع دول الخليج ومصر.

توثيق تحالف بشار مع إيران حرمه من منافع العلاقات الاقتصاديّة مع دول الخليج

وعلى الرّغم من الاستقرار خلال هذه السّنوات، فإنّ المشاعر الطّائفيّة على الأرجح بقيت كامِنة، خصوصًا أنّ التّمييز الواضح بالمؤسّسات الحسّاسة لصالح العلويّين على الرّغم من الخطاب العُروبي، كان يعني أنّ كثيرين من السُّنّة حتى بمؤسّسات الدّولة لديهم مِحنِهم التّمييزيّة الخاصّة (تفيد دراسات بأنّه في التّسعينيّات كان القائد الوحيد السّني لفرع من القوّات المسلّحة السّوريّة هو قائد البحريّة).

ومع مجيء بشّار عام 2000، نفّذ انفتاحًا اقتصاديًّا وسياسيًّا محدودًا، ولكنّ توثيق التّحالف مع إيران حرمه من منافع العلاقات الاقتصاديّة مع دول الخليج، كما أخفقت الحكومة بسبب تكلّس البيروقراطيّة، في تحويل البلاد لوجهة سياحيّة مثل لبنان ومصر أو تلقّي بعض الاستثمارات الخارجيّة، ولكن الصّناعات الأوّليّة شهدت قدرًا من الازدهار لبعض الوقت، ثم تضرّرت جزئيًّا جرّاء الانفتاح على تركيا.

سلاح السّلَفيّة الجهاديّة ينقلب على بشار والاحتباس الحراري يؤازر الثورة

كما كان هناك عامل اقتصادي آخر رصدته تقارير دوليّة وفّر وقودًا إضافيًّا لثورة 2011، وهو التّصحّر الّذي ضرب البلاد الواقعة على حافّة الصّحراء، إضافة لتداعيّات تقليل تركيا لتدفّق مياه الفرات الأمر الذي عزّز السّخط بالرّيف.

مجموعات جهاديّة سبق أن استخدمها النّظام للتّلاعب بالأوضاع في العراق ولبنان تحوّلت أدوات لقوى خارجيّة

ولكن مرّة أخرى، لعب تشظّي الجغرافيا السّوريّة دورًا لصالح آل الأسد، ففي ظلّ غياب أي قوّة سياسيّة فعّالة وطنيّة، تحوّلت الاحتجاجات لتمرّدات عسكريّة محلّيّة يتزعّمها قادة مناطقيّون انتقلوا في مواجهة القَمع من شعارات الحرّيّة والوطنيّة لخطابات إسلامويّة (وأحيانًا طائفيّة) وتَبنّى كثيرٌ منهم سَمْتًا سلفيًّا، بخاصّة أنّ نسبةً كبيرة من هذه الجماعات نشأت في مناطق ريفيّة، تأثّرت بالتّديّن السّلفي الّذي سمح به النّظام في السّنوات الأخيرة، كما دخلت البلاد مجموعات سلفيّة جهاديّة سبق أن استخدمها النّظام للتّلاعب بالأوضاع في العراق ولبنان، ثم تحوّلت كثير من هذه الجماعات لأدوات لقوى خارجيّة عبر التّمويل.

هذا التشظّي والمنحى الإسلامَوي الفضفاض، سهّل اكتساح "داعش" لأجزاء واسعة من البلاد، وابتلاعها لجماعاتٍ من المعارضة، ومكّن كل ذلك الأسد من هزيمة المعارضة بدعمٍ واسعٍ من إيران وروسيا.

تدهور الاقتصاد حطّم معنويّات الجيش السّوري

وبعد أن بدا أنّ الأمور استقرّت لبشار الأسد، ثَبَتَ أنّ الاقتصاد ما زال أشدّ أعدائه، فعقب انتصاره، لم تقدّم إيران أو روسيا لدمشق مساعداتٍ تُذكر، ودعمت أميركا احتلال الأكراد لأغنى مناطق البلاد بالحبوب والغاز والنّفط، ثم فرضت حصارًا خانقًا على النّظام الذي بدا مستسلمًا لهذا المصير، ونخر الفساد وإنتاج المخدّرات في اقتصاد البلاد، إضافةً إلى أنّ التّوسع بالتّجنيد لفتراتٍ طويلة تصل لستّ سنوات، دفع الكثير من السكّان بمن فيهم بعض التّجّار السُّنّة للهرب من البلاد، أو تهريب أبنائِهم، وفي الأغلب فإنّ هذه الهجرة أضافت ضغطًا إضافيًّا على اللّيرة، وحتّى العلويّون ضجروا من عبء الحروب.

انعكس تدهور الاقتصاد على أداء الجيش السّوري، حيث تُفيد تقارير بأنّ رواتب الضبّاط والجنود راوحت ما بين 15 و30 دولارًا، وبأنّ راتب الجندي لا يكفي ثلاثة أيام، وتنقل "بي.بي.سي" عن خبراء أنّ بعض الجنود عاشوا حالةً تُشبه المجاعة.

تحوّل اقتصادي جوهري للمعارضة المسلّحة وفّر لها الموارد لتجنيد قوّة وُصفت بأنّها شبه محترفة

في المقابل، انقلب المشهد الجيوسياسي للمعارضة المسلّحة، فبعدما كانت متفرّقة في أنحاء سوريا، تركّزت قوّاتها في جيْبٍ صغير بإدلب، وهذا أعطاها على الأرجح ميزةً عدديّة عند بدء هجومها، لأنّها حشدت معظم قواتها ضدّ جزء من الجيش السّوري الموجود بحلب، في ظلّ دعم تركي لها، قابله شبه غياب لدعم روسيا المشغولة بأوكرانيا، وإيران المكلومة بنتائج الحرب الإسرائيليّة ضدّ "حزب الله".

كما حدث تحوّل اقتصادي جوهري للمعارضة المسلّحة، إذ فرضت "هيئة تحرير الشام" قبل سنوات بالقوّة سلطتها في إدلب وقهرت الفصائل الأخرى، خالقةً دُويْلة صغيرة، تجبي فيها الضّرائب من المنطقة غير الخاضعة للعقوبات الأميركيّة والمرتبطة بالاقتصاد التّركي، بينما لا تتحمّل الحركة مسؤوليّة بيروقراطيّة كبيرة أو تقديم خدمات واسعة للنّاس، مما وفّر لها الموارد لتجنيد قوّة وُصفت من المصادر الغربيّة بأنّها شبه محترفة، عبر رواتب مُجزيَة.

والآن، هذه الحركة المصنّفة عالميًا ككيان إرهابي، تسعى على ما يبدو لتوسيع تجربتها في إدلب ذات الطّبيعة المحافظة إلى سوريا الكبيرة المتعدّدة الطّوائف، بعاصمتها المُنفتحة، وهي تقدّم وعودًا إيجابيّة مُبهمة وحمّالة أوجُه، لكنها خالية من كلمة الدّيموقراطيّة الّتي تمثّل إشكاليّة للفكر السّلفي، الّذي يؤمِن بـ"إمامة الغلبة". وينافسها مجموعات مسلّحة قادمةً من درعا ومن قاعدة "التّنف" الأميركية وهي بدورها قوى متشظّية ومناطقيّة، ولبعضها ارتباطات بواشنطن.

معضلة الاقتصاد والجغرافيا ستظلّ أكبر تحدٍ أمام أي طرف سيحكم سوريا

أما المعارضة السّياسيّة بالمنفى، فتتحاور في الفنادق بالخارج من دون وزنٍ داخلي يُذكر، وهي متعلّقة بحلم أن يقدّم لها الجولاني الحُكْم على طبقٍ من فضّة.

وستظل معضلة الاقتصاد والجغرافيا أكبر تحدٍ أمام أي طرف سيحكم سوريا، حيث إنّ الاقتصاد مدمّر، والنّفط والغاز بيد الأكراد، الّذين يسيطرون على ثلث البلاد البعيد عن دمشق، وإسرائيل توسّع احتلالها للجولان، والدّول العربيّة متوجّسة مما يحدث، في حين أنّ مساعدات الغرب لن تأتي إلا لنظامٍ مَرْضي عنه ويضمن مصالح إسرائيل والأكراد.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن