الاقتصاد العربي.. وضرورات التكامل

مفارقات الاندماج الاقتصادي العربي: معضلة اختيار النّموذج (1/2)

مهما قيل في نقد مقولة "اتّفق العرب على ألّا يتّفقوا" المُتداولة في التّراث العربي، إلّا أنّه في المجال الاقتصادي بالتّحديد، لا يمكن الاعتراض على المقولة عينها، وذلك إذا تأمّلنا معالم الاقتصاد العربي المُشترك، حيث التّواضع الكبير بخصوص تحقيق الاندماج الاقتصادي بين الدّول العربيّة، وذلك في مراحل عدّة من تاريخها، من دون الحديث عن تأثير التّوجهات السّياسيّة والاقتصاديّة العربيّة التي أضرّت وأضعفَت جهود الاندماج الاقتصادي الإقليمي الذي تسعى إليه دول المنطقة.

مفارقات الاندماج الاقتصادي العربي: معضلة اختيار النّموذج (1/2)

هناك مجموعة من العوامل التي تفسّر ضعف الاندماج الإقليمي الاقتصادي العربي، لكن سنكتفي في هذا المقال بالحديث عن عامل واحد ونترك باقي العوامل إلى المقالات اللّاحقة.

ليس برنارد لويس المُؤرّخ البريطاني ذو الأصول اليهوديّة مسؤولًا عن ضعف الاندماج الإقليمي أو غيابه فهو لم يَدْعُ إلى تفتيت المنطقة العربيّة، لكن بالعكس تمامًا كان يتطلّع الى أن يشكّل العالم العربي قوةً إقليميّةً، وتوقّع في المستقبل أن يقوم اتحاد للمغرب العربي مع مصر والسّودان على أسُسٍ عَمَليّة، وقد صدقت نبوءته في النّهاية بشكلٍ أو بآخر في سنة 1989 (برنارد لويس، 1981).

إنشاء هياكل وتنظيمات عربية في سبيل الاندماج الاقتصادي لكن لم يتحقّق إلّا القليل والدّليل حجم التّبادل التّجاري

قصّة الاندماج الاقتصادي العربي هي قصّة حلم مؤجّل وقصّة مفارقة كبيرة. فمن جهة، ظهرت جامعة الدّول العربيّة سنة 1945 قبل ظهور المجموعة الاقتصاديّة الأوروبيّة في 1947، لكن الاتّحاد الأوروبي ظهر للوجود بعملة موحّدة في 1998 إلّا أنّ الاتّحاد العربي بقي حلمًا لم يتحقّق. وهناك مفارقة كبرى في الموضوع، وهي أنّ البلدان العربيّة انطلقت في إنشاء العديد من الهياكل والتّنظيمات في سبيل الاندماج الاقتصادي (إدارات، وكالات، مؤسّسات، برامج، اتّفاقيات تجاريّة، شراكات وتعاون)؛ لكن من جهة أخرى لم يتحقّق إلّا القليل من الاندماج بين البلدان العربيّة، والدّليل هو حجم التّبادل التّجاري بين البلدان العربيّة تصديرًا واستيرادًا الذي لم يتجاوز 14 بالمئة ما بين 1990 و2018 (مهدي عباس 2014).

العامل الأساسي الذي سنركّز عليه اليوم يهمّ اختيار العرب للنّموذج الاندماجي الإقليمي، وهو مصدر الإخفاق حيث يمكن القوْل إنّ العالم العربي شهد ثلاثة نماذج للاندماج الإقليمي.

في البداية، اختار العرب في عام 1953 نموذجًا اندماجيًّا يقوم على القطيعة مع الاقتصاد العالمي، وفي الأخير مع سنوات 1995 انخرطوا في نموذج اندماجي يقوم على الارتباط بالاقتصاد العالمي، وقبل ذلك كانوا قد اختاروا نموذجًا اندماجيًّا عربيًّا ليبيراليًّا مع مجلس التّعاون الخليجي في 1981 واتحاد المغرب العربي في 1989.

كان الجيل الأوّل من القادة العرب بعد 1945 يمتاز بنزعة مُعاديّة للاستعمار، الفرنسي والبريطاني على الخُصوص، كما كان التّوجه الاقتصادي لديهم يقوم على تشكيل اقتصاديّات وطنيّة (مصر، العراق، سوريا والجزائر خاصّة) على أساس التّصنيع عِوض الاستيراد بهدف تشكيل قاعدة مستقلّة للتّراكم الرّأسمالي. كان النّموذج يقوم على فكّ الارتباط بين الأطراف "العالم ــ ثالثيّة" والعربيّة المستعمرة سابقًا مع المركز الأوروبي للاقتصاد العالمي، انطلاقًا من "نظريّة المركز والأطراف".

وفي هذا السّياق ذي التّوجّه القومي الاشتراكي الذي تزعّمته مصر الناصريّة، ظهرت عدّة هيئات ومبادرات في سبيل الاندماج الاقتصادي العربي، من قبيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي (1950) ومجلس الاتحاد الاقتصادي العربي (1957) واتّفاقيّة السّوق العربيّة المُشتركة (1964) بين مصر والسّودان والأردن واليمن وسوريا وموريتانيا.

كما كان التّوجه نحو الاندماج الاقتصادي طَموحًا في تلك المرحلة، لكنّ الطريق الذي اعتمده كان يُعطي أهميةً كبيرة للتوجّه الاشتراكي الذي لم يكن محطّ إجماع في المنطقة خاصّة لدى الدّول الخليجيّة المُحافظة. وقد كان العامل الإيديولوجي هو العامل الأساسي وليس الاقتصاد. ولأنّ المنطقة العربيّة شهدت العديد من الخِلافات السّياسيّة حول قيادة العالم العربي بين مصر والسّعودية، وظهور النّزاعات والحروب بين البلدان العربيّة حول فلسطين والأزمة اليمنيّة، فإنّ جهود الاندماج الاقتصادي تبخّرت وانتهى هذا النّموذج الاندماجي المُؤدلج في المنطقة مع اندلاع الحرب العراقيّة - الإيرانيّة سنة 1980.

وفي الوقت الذي ظهرت فيه إيران كتهديدٍ للمنطقة العربيّة، ظهر تكتّل إقليمي عربي قوي هو مجلس التّعاون الخليجي سنة 1981 كمجلس لتحقيق الأمن العربي في مواجهة تَنامي التّهديد الإيراني مع تبنّي مقاربة جديدة للاندماج تقوم على النّموذج الاقتصادي الليبيرالي. بزوغ هذا النّموذج الخليجي كان وراء تبنّي وقيام اتحاد المغرب العربي سنة 1989 على المقاربة عينها (جهين، 2016، ومهدي عباس، 2021).

مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتّحاد السّوفياتي والبلدان الدّائرة في فلكه ومنها البلدان العربيّة الاشتراكيّة (الجزائر، سوريا، العراق، اليمن) وقيام حرب الخليج الأولى في عام 1990 وانتشار أفكار حرّية التّجارة والأسواق في العالم، تَنامى انتشار النّموذج الليبيرالي القائم على حرّية التّجارة والتّبادل بين البلدان كمصدر لتحقيق الرّفاه والرّخاء لجميع الأمم.

المسارات التّشاركيّة الّتي انخرط فيها العالم العربي مع قوى دوليّة ساهمت في إضعاف الاندماج الإقليمي العربي

ومع ظهور الاتّحاد الأوروبّي كقوة إقليميّة كبرى في 1990 والعملة الأوروبيّة الموحّدة في 1999، وظهور مسار برشلونة للتّعاون الأورو ــ متوسّطي سنة 1995، بدأ العرب مرحلةً جديدةً من التّعاون الاقتصادي الدّولي من خلال الدّخول في الشّراكات مع الاتّحاد الأوروبّي الّذي يهدف الى مساعدة البلدان العربيّة حتى تكون لديها بيئة جاذبة للاستثمارات الأجنبيّة. وهكذا سيظهر نموذجٌ جديدٌ في العالم العربي في الاندماج الاقتصادي، بل كان نموذجًا اندماجيًّا منفتحًا على العالم وهنا ستظهر العديد من المبادرات العربيّة للشّراكة بين القوى الدّوليّة الكبرى، وخاصّة الولايات المتّحدة، الاتحاد الأوروبّي؛ والقوى الصّاعدة، وخاصّة الصّين والهند وتركيا وروسيا.

ستظهر كذلك مبادرات عربيّة إقليميّة في هذا السّياق، تضم بلدانًا عربيّة بالشّراكة مع الاتحاد الأوروبّي نذكر منها اتّفاقيّة "غزالة 1997"، واتّفاقيّة "أكادير 2004"، وهناك مبادرات اندماجية ما بين إقليميّة تربط العالم العربي مع مناطق أخرى من العالم، من قبيل الشّراكة العربيّة مع الولايات المتّحدة 2003، واتّفاقيّات "طريق الحرير" الصّينية واتّفاقيّات مع بلدان جنوب شرق آسيا، وذلك وِفق مقاربة تشاركيّة تتبنّى مبادئ حرّية التّجارة ورفع القيود الجمركيّة وغير الجمركيّة وحماية المُلكيّة الفكريّة وحلّ النّزاعات التّجاريّة وفق التّحكيم.

دخلت الاقتصاديّات العربيّة في هذه المرحلة في شراكات استراتيجيّة لا تهدف في الواقع إلى تعزيز الاندماج الاقتصادي بين البلدان العربيّة، بقدر ما تروم تعزيز الاندماج مع الاقتصاد العالمي حيث إنّ الاتفاقيّات الاستراتيجيّة ستدخل في إطار التّعاون شمال - جنوب (بوغنامي والشماخي 2016).

اتّضح أنّ هذه المسارات التّشاركيّة الّتي انخرط فيها العالم العربي مع قوى دوليّة، ساهمت في إضعاف الاندماج الإقليمي العربي، والمفارقة أنّ هذه الشّراكات الدّولية لم تسهم في زيادة الاستثمارات الدّوليّة الأجنبيّة في المنطقة العربيّة ولا في زيادة الصّادرات العربيّة تجاه هذه البلدان الشّريكة، بل على العكس من ذلك، أفضت إلى زيادة حجم الواردات من بلدان الاتحاد الأوروبي وتركيا (رويس، 2013).

الشّراكات المتعدّدة تدخل في استراتيجيّة الارتباط بعربة دفع في قطار أحد أقطاب الاقتصاد الدّولي

إنّ الشّراكات الجديدة تهدف إلى إدماج العالم العربي بالاقتصاد العالمي ولا تؤدّي بالضّرورة إلى إدماج الاقتصاديّات العربيّة في إطار اقتصاد عربي مشترك. ويترتّب على هذه الشّراكات التزامات عربيّة فرديّة تخدم مصالح الشّركاء الدّوليين حيث سيتمّ تعديل المعايير غير الجمركيّة على سبيل المثال وفق متطلّبات الشّراكة الدّولية وليس ذلك في صالح الاندماج الاقتصادي العربي الذي يتطلّب الاتّفاق على معايير مختلفة.

ليس هذا وحسب، اتّضح أيضًا أنّ هذه الشّراكات المتعدّدة لا تدخل في إطار التّنمية الاقتصاديّة وتنويع الإنتاج والدّخل القومي، ولكن تدخل في استراتيجيّة الارتباط بعربة دفع في قطار أحد أقطاب الاقتصاد الدّولي (مهدي عباس، 2021).

هكذا بدأ العرب بعد خروج الاستعمار الغربي من بلادهم في التطلّع إلى تشكيل اقتصاد عربي اشتراكي يوحّدهم في وجه الاقتصاد الغربي الرّأسمالي، لكنهم لم يتّفقوا على اختيار الطّريق الاشتراكي لتحقيق حلم الاندماج الاقتصادي فيما بينهم. وبعد فشل النّموذج القومي الاشتراكي ظهرت آمال الاندماج الاقتصادي الحقيقي مع مجلس التعاون في 1981 واتحاد المغرب العربي في 1989، لكن صعوبات وتحدّيات متنوّعة وقفت وما زالت في طريق الاندماج الفعلي للاقتصاديّات العربيّة في اقتصاد مُتكامل يعود بالرّخاء على جميع البلدان العربيّة، فقيرها ومتوسّطها وغنيّها، سنعالجها في المقالات اللاحقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن