ثلاث أطروحات تمّ الدّفع بها بكثافة في إطار لعبة توزيع أدوار المشهد القائم منذ ٨ ديسمبر/كانون الأول بين هذه الأطراف الثلاثة: أميركا وإسرائيل ومُعسكر تركيا وتيّار "الإخوان المسلمين".
أميركا تريد أن تمحوَ صورة إسرائيل الفاقِدة لقوّة الرّدع لأنّ دورَها كوكيل ستستخدمه أميركا لقيادة تحالفٍ إقليميّ
أميركيًّا، سمحت واشنطن لنتنياهو بأن يَنسِب لنفسِه "مجد احتلال أراضٍ سوريّة وتفكيك محور المُقاومة" وليس الولايات المتحدة، على الرّغم من أنّ واشنطن هي الّتي نسّقت العمليّة كلّها، وكما قال بعض خبرائها لقد قادت أميركا من الخلف عمليّة تمّ تحضيرها شهورًا جمعت فيها إسرائيل وتركيا -وعبْر الأخيرة- الرّاديكاليّين السُّنّة تدريبًا وتسليحًا وحدّدت لحظة الصّفر في يومٍ نجح فيه مبعوثُها آموس هوكستين في تنفيذ وقف إطلاق النّار في لبنان - عندما تأكّدت من ضعف النّظام السّوري وحلفائه. لكنّ أميركا تريد أن تمحوَ صورة إسرائيل المهزومَة الفاقِدة لقوّة الرّدع المُعتمِدة عليها للدّفاع عن نفسِها لأنّ دورَها كوكيل ستستخدمه أميركا لقيادة تحالفٍ إقليميّ هو أهمّ لواشنطن من إبراز دورِها القيادي في العمليّة الجاريّة لإعادة رسم خرائط وحرائق الشّرق الأوسط الجديد.
- إذا كانت الولايات المتّحدة سمحت لإسرائيل بتضخيم دورِها في الأحداث ما دامت هي القيادة الفعليّة والعُليا... فإنّ إسرائيل تصنع الشيء عينه، ولكن بدرجةٍ من التّضخيم في دور تركيا. لا تكفّ ماكينة الدّعاية والمعلّقين والسّاسة الإسرائيليّين النافذة في وسائل الإعلام الغربيّة المُهيمنة على إطلاق صفات جيواستراتيجيّة عملاقة مثل: تركيا تصبح زعيمة المنطقة، أنقره هي القوّة الصّاعدة في الشّرق الأوسط، هل شهدتُمْ تسابق إيران وروسيا والصّين ولبنان والعراق ومصر والأردن على تركيا مباشرةً وليس "أبو محمّد الجولاني" لحلّ قضاياهم المعلّقة مع سوريا الحاليّة أو إعطاء ضمانات تهدِّئ مخاوفَهم بشأن سوريا المقبلة؟.
- الإسرائيليّون يستخدمون تعبيرًا خاصًّا بهم يكشف عن نواياهم الحقيقيّة وهو أنّ ما يسمّونه بـ"التّحالف التّركي – القطري" وهو الدّاعم التّقليدي لـ"الإخوان المسلمين" وجماعات الإسلام السّياسي، قد يتحوّل لمصدر تهديد مستقبلي للأمن الإسرائيلي. نتيجة هذه المُبالغة في الدّور التّركي - القطري، تقول تل أبيب إنّها لذلك يجب أن تبقى محتلّةً لكامل الجولان وأن تظلّ دمشق تحت رحمةِ مدفعيّتها الثّقيلة وليس فقط سلاحها الجوّي. وصل الأمر إلى تلميح خبيث "ما دام لم يطالب العَرَب جدّيًّا بانسحاب تركيا من الأراضي السّوريّة فيجب كذلك ألّا يُطالب أحد منهم ولا من المجتمع الدّولي إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السّوريّة". أي أنّ إسرائيل تقول إنّ انسحابها قد يكون مربوطًا بانسحاب تركي، وهو كما يعلم الجميع ليس أمرًا مطروحًا على عقل رجب طيّب أردوغان قبل أن يُعيد تشكيل النّظام السّوري عبر حليفه أحمد الشّرع بطريقة تضمن هيمنةً سياسيّة تركيّة على دمشق وإعادة صنع جيشها على عين أنقره بعقيدة قتاليّة توافق مصالح وهواجس تركيا الأمنيّة، بخاصة في إزالة التّهديد الكردي في شمال شرق سوريا.
تركيا أطلسّية وإنْ كان قلبها إسلامي فعقلها وقرارها هو جزء من الاستراتيجيّة الغربيّة
- المقولة الثّالثة هي مقولة التّحالف الذي تزعم إسرائيل أنّه يقود تبدّلات المشهد الإقليمي، فإعلام هذا التّحالف يقع في فخ التّهوين الأميركي والتّهويل الإسرائيلي ويتحدّث عن انتصار تيّار الإسلام السّياسي ومقدّمات عودة "الخِلافة الإسلاميّة" تحت قيادة أردوغان "السّلطان العثماني الجديد" الّذين يزعمون أنّ نفوذه يمتدّ من الصّومال إلى ليبيا في أفريقيا ومن كامل المشرِق العربي حتى أذربيجان وأوراسيا. يقول هؤلاء الّذين لم يتعلّموا من دروس توظيف البريطانيّين لمشاعرِهم الدّينيّة في الهند وقبرص وغيرها في تعطيل حركة الاستقلال الوطني ولا توظيف الأميركيين لهم منذ حُكم دوايت أيزنهاور والحلف الإسلامي، في ضرب حركة التّحرّر القومي العربي التي أطلقها جرح حرب 1948 وضَياع فلسطين من عقالها فحرّرت كل البلاد العربيّة تقريبًا حتى وقعت هزيمة 1967 التي كانوا جزءًا من مخطّطها حتى أنّهم سجدوا لله شكرًا لاحتلال بلادهم.
ماذا تنسى المقولات الثّلاث؟ تنسى طبيعة العلاقة الأميركيّة - التّركيّة والإسرائيليّة - التّركيّة تحت مظلة الـ"ناتو" الاستراتيجيّة.
تركيا أطلسّية وهذه حقيقتُها. إنْ كان قلبها إسلامي من شعبها فعقلها وقرارها هو جزء من الاستراتيجيّة الغربيّة. ولم تتوانَ أنقره في أي لحظة عن تنفيذ الدّور المُناط بها في هذه الاستراتيجيّة والذي يكون غالبًا موجّهًا للعالم العربي. كلّ محاولة غربيّة لإضعاف مشروع التّحرّر العربي كان رأس الحربة المُعلَن فيها هي تركيا، ورأس الحربة الآخر ولكن غير المعلَن لتفادي حساسيّات المُسلمين والعرب كانت إسرائيل. منذ أيزنهاور كان مُنظّرو الأمن القومي الأميركي يضعون تركيا لاعبًا رئيسيًّا في الخطط المُعادية للمصالح العربيّة وهم مطمئنون إلى أنّ إسلاميّة تركيا تسَهّل التّسلّل النّاعم والغطاء الّذي يَستر الأطماع. ومن الحكومات العسكريّة والأحزاب العلمانيّة التّركيّة والحكومات ذات المكياج الإسلامي تغيّرت الكثير من الأمور إلّا الدّور الوظيفي لتركيا في الاستراتيجيّة الأميركيّة - الأطلسّية للشّرق الأوسط.
أردوغان سيكون حاكمًا إقليميًّا مع إسرائيل تعينهما الإمبراطوريّة الأميركيّة
يتناسى الجميع أنّ إسرائيل ما كانت لتستطيع مواصلة حرب الإبادة في غزّة وتدميرها لجنوب لبنان واحتلالها للأراضي السوريّة من دون إمدادات الغاز الأذربيجاني الذي يذهب لدولة الاحتلال عبْر تركيا. فعلى الرّغم من كل شعارات أردوغان ضدّ إسرائيل والتي اضطرّ إليها بعد خسارة حزبه الانتخابات المحلّية بسبب موقفه الأوّلي الهَزيل من حرب غزّة، لم يمنع يومًا صادرات الغاز التي قال معلّقون إسرائيليّون: كنّا لنموت من دون الغاز الآتي عبر تركيا.
إلامَ يقود "فساد" الأطروحات الثّلاث بالنّسبة لمستقبل سوريا والمنطقة؟
بالنّسبة لسوريا فإنّ الأغلب هو أنّ القيادة الأميركية العُليا للمِحور الذي حلّ المِحور الإيراني، ستقوم بالتّوصّل إلى حلول وسط التّناقضات "الثّانويّة" في المصالح بما في ذلك بينها وبين تركيا بشأن الأكراد. من المرجّح أن تدعم واشنطن - ولا تعارِض تركيا فعليًّا - خطّة الإسرائيليّين في تقسيم سوريا إلى مناطق حُكم ذاتي طائفيّة أو إثنيّة: جيب "كردي" في شمال شرق سوريا، جيب "درزي" في الجولان، وجيب "علوي" في الساحل، وامتداد "سنّي" حتى دمشق. أما بالنّسبة لباقي المنطقة فأعيد ما كتبتُه من أنّ حلفًا دفاعيًّا وماليًّا أميركيًّا متّسعًا للإقليم سيضم الإسرائيليّين والعرب والأتراك السُّنّة ولن يقتصر على حلف النّقب القائم.
تضاعف نفوذ أردوغان ولكن لن يكون خليفةً جديدًا مثل أسلافه العثمانيّين، ولكن حاكمًا إقليميًّا مع إسرائيل تعينهما الإمبراطوريّة الأميركيّة.
(خاص "عروبة 22")