أدّى تَلاشي البنية المُجتمعيّة التّقليديّة القائمة على القبيلة والأسْرة المُمتدّة، وتَسرُّب قِيَم الاستهلاك الغربيّة، وتَبنّي أنْماط عيْش وعمَل مستورَدة من خارج المنطقة العربيّة، إلى تسْريع تآكل قاعدَة الهَرَم السُّكّاني العربي، وتحوّله التّدريجي نحو الشّيخوخة بعد أن كان خلال العُقود القليلة الماضية ذا قاعدة عريضة، جعلت الشّباب هي الفئة الغالبة على البنية الدّيموغرافيّة العربيّة لعقودٍ عديدة، وذلك خِلافًا للدّول الصّناعيّة التي وَلَجَت مرحلة الشّيْخوخة منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وهو ما دفعها إلى فتح أبواب الهِجْرة على مِصراعيْها رغبةً في تعويض تراجُع السّاكِنة النّشيطة وضمان تطوير اقتصادِها بالموازاة مع التّحوّلات الدّيموغرافيّة التي شَهدَتْها، وهو ما لم توليه معظم الدّول العربيّة اهتمامًا كبيرًا.
تسارع التّحوّلات الدّيموغرافيّة والمُجتمعيّة وتراجع نِسَب نموّ السّكان يفرضان تحدّيات حقيقيّة على معظم الدّول العربيّة
لقد كان هاجِس العديد من الدّول العربيّة خلال العقود الماضيَة سكّانيًا بامتياز، فمسألة تدبيرِ الفائض وتخفيف الضّغط على الخدمات الحكوميّة ومواجهة البَطالَة، جعلت هذه الدّول تنخرط من دون رؤيَة استِشرافيّة في مختلف برامج تحديد النّسل وتقليص النّمو الدّيموغرافي، كما تغاضَت عن هجرة ملايين الشّباب نحو الخارج، وهي التوجّهات التي مَكَّنَت خلال فتراتٍ معيّنة من تنفيس الاحتقان الاجتماعي، غير أنّها لم تُمكِّن هذه الدّول من تطوير آليّات لمواجهة التّحديّات والآثار الناجمة عن تراجع عدد السّكان، وشيخوخة المُجتمع المبكّرة.
انتقل هاجِس الدّول العربيّة من مسألة تدبير الفائض إلى تدبير النّدرة والخصاص، ومواجهة شيخوخةِ جزءٍ كبير من المُجتمع، وما يتطلّبه ذلك من تعبِئةٍ كبيرة للموارِد الماليّة والبشريّة لخدمة الحاجيّات الخاصة بفئة غير مُنتجَة.
تحدّيات كبرى ورؤيَة غائبة
إنّ تَسَارع التّحوّلات الدّيموغرافيّة والمُجتمعيّة، وتراجع نِسَب نموّ السّكان بشكل ملحوظ، باتا يفرضان تحدّيات حقيقيّة على معظم الدّول العربيّة، مُعظمِها مُرتبطٌ بعدم قدرة اقتصاد معظم الدّول العربيّة على تَحمّل تَبِعات هذا الوضـع، في ظلّ تراجع مَواردِها البَشريّة وعجزِها عن تفعيلِ آليّات الهِجرة العَكسيّة لضعف جاذبيّة اقتصادِها، باستثناء بعض دول الخليج العربي، واستمرار نزيف هجرة أبنائها نحو الخارج، بخاصّة الكفاءات العالية من الشّباب، وهو ما سعت دول عربيّة كالمملكة المغربيّة من أجل احتوائه عبْر إصلاحاتٍ الغايَة منها الإبقاء على كفاءاتها الشابّة في أرْض الوطن، سرعان ما قوبِلَت برفضٍ كبيرٍ من قِبَل خرّيجي عددٍ من التّخصّصات كالطّب والصّيدلة، كانت سببًا في اندلاع أطول إضراب شَهِدَتْه الجامعة المَغربيّة والذي استمرّ أزْيَد من سنة، كانت كافية لدفع الحكومة المغربيّة لمراجعة قراراتِها، وإقالة وزير التّعليم العالي والتّراجع عن الإصلاح.
الصعوباتٌ الاقتصادية والاجتماعية ستزدادُ حِدّةً في ظلّ السّعي المُنفرد للدّول العربيّة لإيجاد حلولٍ تُراعي سياقاتِها الخاصّة
إجمالًا، يبدو أنّ معظم الدّول العربيّة لم تستعدّ بالشّكل المطلوب لمواجهة التّحوّلات الطّارئة على بنيتِها الدّيموغرافيّة والمُجتمعيّة، وهو ما بات يُنذر بصعوباتٍ كبيرة سوف تواجهها، خصوصًا على المستويَيْن الاقتصادي والاجتماعي، صعوبات من شأنِها تعطيل مخطّطات تطوير الاقتصاد وتحديث الإدارة، إلى جانب مفاقمَة العجْز المُوازَناتي في ظلّ الارتفاع المُرْتقب لتكاليف رعاية المُسِنّين، ودعْم الأسْرَة النّوويّة الهشّة ومساعدتها على تحمُّل أدوارِها في رعاية النّشء ومواكبة الشّباب، وهي صعوباتٌ ستزدادُ حِدّةً في ظلّ السّعي المُنفرد للدّول العربيّة لإيجاد حلولٍ تُراعي سياقاتِها الخاصّة، وغياب الرّؤيَة وضعف الآليّات والإمكانات، الأمر الذي باتَ يفرضُ مراجعةً شاملة للتّوجّهات العربيّة في هذا المجال، وتكثيف السّعي العربي المُشترك من أجل وضع استراتيجيّات تكامليّة، قد تُمَكِّن المنطقة من تطوير آليّات مؤسّساتيّة وتشريعيّة وماليّة واقتصاديّة مشتركة، من شأنِها تعزيز فرص مواجهة تبِعات الشّيخوخة المُبَكِّرة وتراجُع نِسَب النّمو.
(خاص "عروبة 22")