صحيح أنّ قراءةَ الجانب العقائديْ في فكر "الجولاني" ثم أحمد الشّرع مهمّ، ولكنّه يُمثِّل جانبًا واحدًا في فهْم المسارِ الحالي ومستقبلِه، بخاصة أنّ هناك مُتغيّرات أخرى لصيقة بالتّجربة السّوريّة وقادرَة على حسْم مستقبلِها، وتتعلّق أساسًا بالدّور التّركي الذي امتلك مقاربةً مختلفةً تركّزت على دعم المسار الحالي بشكلٍ عملي تمامًا.
والحقيقة أنّ دور تركيا في دعم الفصائِل المسلّحة وترتيب جانبٍ أساسي من خطاب زعيمها الجديد واضح، فقد دَعَمَت المُعارضة السّورية منذ انطلاق الثّورة، واحتضنت جانبًا كبيرًا من فصائلِها المسلّحة وخصوصًا "الجيش الحرّ" و"هيئة تحرير الشّام" لصالح بناء نموذجِ نجاحٍ في سوريا متحالِف مع تركيا بصرْف النّظر عن خلفيّات هذه الفصائِل الإيديولوجيّة والعقائديّة.
المسار السّوري ليسَ مسارًا مزيّفًا صنعة الخارج إنّما هو صِناعة سوريّة منذ 2011 دَعَمَهَا الخارج
لم تَشْغَل تركيا بالهَا كثيرًا ما إذا كانت "هيئة تحرير الشّام" قد أجرَت مراجعةً حقيقيةً لفكرِها الجهاديّ القديم أم لا؟ إنّما دعمت خيارًا سياسيًّا وعسكريًّا سوريًّا لديه حاضنة شعبيّة كبيرة في الدّاخل وتحالف مع الخارج، وهو على عكس ما جرى في العراق في ٢٠٠٣ حين غَزَتْهُ الولايات المتّحدة وأسقطت نظامَه بالقوّة المُسلّحة وعيّنت الأميركي "بريمر" ليقودَ المرحلة الانتقاليّة، ثم استخدمت بعد ذلك أدواتٍ محلّيّة لإدارة العراق. امّا في سوريا فالفصائل السّوريّة هي التي أسقطت النّظام بدعمٍ خارجي تركي، واختارت التّوقيت المُناسب لمعركتِها بعد أن تراجعَت قوّة "حزب الله" والميليشيات الإيرانيّة وأسقطت النّظام في أقل من عشرة أيام.
المسار السّوري ليسَ مسارًا مزيّفًا صنعة الخارج إنّما هو صِناعة سوريّة منذ 2011 دَعَمَهَا الخارج، فنظام بشّار لم يمتلك أي حاضنة شعبيّة تُذكر إنّما دعمه "شبّيحة النّظام" وقادة الجيش الكِبار وقِلّة مستفيدة منه، وهذا على عكس تجارب التّغيير الأخرى التي جرت في العالم العربي سواء كانت مسلّحة مثل ليبيا التي ظلّ هناك حاضنَة شعبيّة ولو محدودة للقذّافي، أو سلميّة مثل السّودان عقب سقوط البشير، أو مصر عقب تَنَحِّي مبارك، حيث ظلّ هناك قطاع من الناس مُؤيّدًا للنّظامَيْن حتى بعد سقوطهِما، ولذا فإنّ حالة شبة الإجماع الشّعبي على رفض نظام بشّار ودعم أي مشروع يُسقطه سَهَّلَ من مهمّة الفصائل المسلّحة في الانتصار والسّيطرة على البلاد.
خطاب قادة سوريا الجُدُد فيه الكثير من "البراغماتيّة التّركيّة" ووعي بوطأة فشل تجارب التّغيير العربيّة
تركيا قرأت هذا الواقع جيّدًا ودعمَت المعارضة من وراء السّتار وراهنت على الجواد الرّابح الذي صُنِعَ وتربّى في الواقع المحلّي السّوري وكان يحتاج إلى اللّحظة المُناسبة ليعلن انتصاره.
إنّ خطاب قادة سوريا الجُدُد فيه الكثير من "البراغماتيّة التّركيّة" و"وعيٍ ما" بإرث عقدَيْن من الزّمان عرفت فيهما سوريا الكثير من المآسي، وأيضًا وعي بوطأة فشل تجارب التّغيير العربيّة بما فيها التّجارب المدنيّة والسّلميّة مثل السّودان الذي أسقط فيها الشّعب نظامًا عسكريًا/دينيًّا، وعلى الرّغم من ذلك دخلت البلاد فيما يشبِه الحرب الأهليّة سقط فيها آلاف الضّحايا.
التداخل التّركي مع التّجربة السّورية انطلق من أنّه غير مُحَمَّلٍ بإرث الانقسامات الإيديولوجيّة العربيّة وليس طرفًا مباشرًا فيها، وبالتالي سعى ليؤسِّسَ لنموذجٍ أكثر تسامحًا وانفتاحًا من تجارب التّغيير العربيّة التي باءت بالفشل، فاختفت جُمَل "اجْتِثَاث البعث" الّتي طُرِحَت في العراق، كما اختفت جملة "حلّ الجيش" وسَعَت القيادة الجديدة إلى تسوية أوضاع جنود وضبّاط الجيش السّوري طالما لم يرْتكبوا جرائم في حقّ الشعب.
النّموذج التّركي الأكثر علمانيّةً من مُجْمَلِ البلاد العربيّة لم يشغل باله بنوايا أحمد الشّرع
وضعيّة تركيا التي لم تكن طرفًا في أي تجربة تغيير عربيّة، من تونس إلى مصر ومن ليبيا حتّى السّودان، جعلتها في وضعٍ سَمَحَ لها بأن تقول للجانب السّوري "هذه وصفة النّجاح" ويجب أن تكون أعينكم على المُستقبل ولا تنشغلوا بمعاركِ الماضي.
النّموذج التّركي الأكثر علمانيّةً من مُجْمَلِ البلاد العربيّة لم يشغل باله بنوايا أحمد الشّرع ولم يربط بينه وبين جماعة الخِدمة الدّينية للرّاحل التّركي فتح الله غولن الذي عارض أردوغان بشدّة. كما لم تضيّع تركيا وقتها في الجدل حول الموقف من الإسلام السّياسيّ، على الرّغم من أنّها بلد علماني لا يقول أردوغان وحزبه الحاكم إنّهم إسلاميّون إنّما محافظون ديموقراطيّون، وركّزوا جهودهم من أجل إنجاح المسار الانتقالي واعتبروا بعمليّة وبراغماتيّة شديدة أنّ نجاحه سيحقّق مصالح تركيا وسيقوّي من حضورها الإقليمي والدّولي، وتركوا لنا الصّريخ حول أيّهما الحقيقي أبو محمد الجولاني أمْ أحمد الشّرع!.
(خاص "عروبة 22")