في عام 1968، صَدَرَت ترجمةُ كتاب لألبرت حوراني تحت عنوان "الفِكر العربي في عصر النّهضة". وكان للكتاب تأثيرٌ كبيرٌ في الدّارسين الذين تناولوا الفِكر العربي في القرن التّاسع عشر وحتى النّصف الأوّل من القرن العشرين.
يخصّص الكتاب فصلًا مُسهبًا للدّولة العُثمانيّة والإصلاحات والتّنظيمات التي عرفتها مبكّرًا في نهاية القرن الثّامن عشر مع السّلطان سليم الثّالث، ثم الإصلاحات في القرن التّاسع عشر، وذلك قبل أن يتطرّق إلى الجيل الأوّل من النّهضويّين في لبنان ومصر وتونس.
الفِكر العربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هو نتاج التّأثيرات الفِكريّة الغَربيّة
وفي فصول الكتاب التّالية استعراض وتحليل لأفكارٍ وشخصياتٍ تبدأ مع رفاعة الطّهطاوي وبطرس البستاني وخير الدّين التّونسي ثم جمال الدّين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وفرح أنطون وشبلي شميل وطه حسين.
والزّمن الذي شغله هؤلاء يمتدّ على مسافةٍ طويلةٍ تزيد على القرن من الزّمن، أمّا الشّخصيّات الّتي تناولها فإنّها تُعبِّر عن تيّاراتٍ مُتبايِنة مثل التّنويريّين المُبكّرين والإصلاحيّين الإسلاميّين والعِلمانيّين.
ولكيْ نفهمَ كيف جمع المؤلّف ألبرت حوراني بين التّيّارات المختلفة والمُتعارضة، ينبغي أن نرجِع إلى عنوان الكتاب الذي صدر باللّغة الإنكليزيّة عام 1962، وهو "الفِكر العربي في العصر اللّيبيرالي". الأمر الذي يفتح بابُ النّقاش ليس حول الأمانة في التّرجمة فحسب، ولكن حول سبب استبدال عبارة "العصر اللّيبيرالي" بمفردة "النّهضة"، ويمكن الاستنتاج هنا بأنّ مفردة "نهضة" كانت تملك نفوذًا معنويًّا وقيمةً إيجابيّةً عدا عن شيوعِها. في المقابل، فإنّ تعبير "العصر اللّيبيرالي" كان سيُثير إشكالاتٍ معرفيّة في الزّمن الذي ظهرت فيه التّرجمة، ودلالاتٍ سلبيّة في زمن الشّعارات الوطنيّة والاشتراكيّة ومعاداة الغرب.
إنّ فكرة المؤلّف ألبرت حوراني واضِحة، وهي أنّ الفِكر العربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، هو نتاج التّأثيرات الفِكريّة الغَربيّة بما في ذلك الاتّجاهات التّنويريّة المُبكِّرة والإصلاحيّة الإسلاميّة والعِلمانيّة. ومن المُعبّر أن يتوقّف المؤلّف عند طه حسين في مؤلّفاته البارزة وأشهرها في "الشّعر الجاهلي ومستقبل الثّقافة في مصر"، التي ترجع إلى عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين. ذلك أنّ تأثير اللّيبيراليّة الغربيّة قد انخفض أمام صعود التّيّارات الشّيوعيّة والقوميّة والشّعبويّة في أوروبّا، فظهرت الأحزاب القوميّة والشّيوعيّة والدّينيّة في البلدان العربيّة.
وإذا كان عصر النّهضة يتطابَق جزئيًا مع العصر اللّيبيرالي، فلا يُمكننا أن نُهملَ كون الحِقبة عينها قد عُرِفَت أيضًا بـ"عصر التّنظيمات"، والإصلاحات العثمانيّة، والتي كان لها تأثيرها في المَشرِق العربي وتونس فضلًا عن مصر التي ارتبطت نهضتها بمحمد علي باشا والخديوي إسماعيل.
لا يتعلّق الأمر باختلافٍ بين المصطلحات والتّسميَات، ولكن باختلاف النّظر إلى الحِقبة وتحديد المؤثّرات وفاعليّتها وأولويّتها، لقد رأى حوراني أنّ كلّ الأفكار على اختلاف توجّهاتِها ترجِع إلى التّأثير الأوروبّي في العصر اللّيبيرالي. أمّا الذين يأخذون بمُصطلح النّهضة فإنّهم يُركِّزون على دور العوامل المَحلّيّة من دون إهمال التّأثير الأوروبّي، كما أنّهم يُهملون دور التّنظيمات العُثمانيّة التي تضمّنت مبادئ مثل المساواة بين أبناء الأديان والإثنيّات، كما تضمّنت إدخال الإصلاحات العسكريّة والتّعليم والإدارة، وكان لهذه التّنظيمات أثرها في المشرق العربي، وخصوصًا لبنان وسوريا.
نحتاج إلى أخذ العوامل والقوى والمؤثّرات مجتمعةً، فالتأثير الأوروبّي كان جارفًا، في الوقت عينه الذي نتساءل فيه لماذا كانت استجابة القوى المحلّيّة في لبنان ومصر وتونس مبكّرة بالمقارنة مع البلدان الأخرى التي تأخرت فيها استجابة القوى المحلّيّة للتحوّلات السّياسيّة والفكريّة في القرن التاسع عشر.
زمن النّهضة يتوقّف عند ثمانينيّات القرن التاسع عشر لندخل في مرحلةٍ جديدة تبرز فيها أفكار الوطنيّة والإصلاحيّة
والمسألة الرّئيسيّة التي تعنينا هنا هي تقدير زمن حِقبة النّهضة، يتعلّق الأمر بالسّؤال الذي طرحه مفكرو النّهضة وخصوصًا رفاعة الطّهطاوي وبطرس البستاني وخير الدّين التّونسي، وهو: كيف يمكننا الأخذ من تقدّم الغرب ومدنيّتِه؟ لكن هذا السّؤال لم تعد له الأولويّة بعد الاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881، والاحتلال الإنكليزي لمصر عام 1882، وقبل ذلك تعليق العمل بالدستور عام 1877، بعد أن كان السّلطان عبد الحميد الثّاني قد أقرّه قبل سنة. وقد أصبح السّؤال مع الإصلاحيّة الإسلاميّة النّاهضة آنذاك: كيف يُمكننا تفادي خطر الغرب على عقيدتِنا، وإصلاح فكرِنا وأحوالِنا؟.
وعلى هذا النّحو، يمكننا القول إنّ زمن النّهضة يتوقّف عند ثمانينيّات القرن التاسع عشر، لندخل في مرحلةٍ جديدة تبرز فيها أفكار الوطنيّة والإصلاحيّة.
(خاص "عروبة 22")