كان سُقوط جدار برلين، أو "جدار العار" كما كان يسمّى عند البعض، قد أَشَّرَ إلى بدايةِ مرحلةٍ جديدةٍ لشعوب تلك الدّول. وبدورِها، أخذت شعوب أميركا اللّاتينية تتململُ وتتخلّصُ، وإنْ ببطء، من أدران الدّيكتاتوريّات وتُعبِّد الطريقَ لبناء أنظمةٍ وطنيّة على أُسُسٍ ديموقراطيّة جديدة.
وكان الحديث يجري عن إمكانيّة انتقال "عدوى" الدّيموقراطيّة تلك إلى مناطق أخرى من العالم التي تعيش ظروفًا مماثِلة أو شبيهة بأوضاع سكّان أوروبّا الشّرقيّة، ومنها المنطقة العربيّة التي كانت من أهم المناطق المُرشّحة لحدوث التّحوّلات التي عرفتها أوروبّا الشّرقيّة، إلّا أنّ أغلبيّة دُول المنطقة قد حافظت على أوضاعها السّياسيّة المَوْروثَة ولم تتأثّر بالموجة الجديدة من الدّيموقراطيّة وكأنّها لا تنتمي إلى هذا العالم بِقِيَمِهِ الجديدة الذي أخذت أجزاؤه تتفاعل مع بعضها البعض أكثر مما كانت عليه الحال في السّابق وتتأثّر بشدّة بأحداثِه المختلفة. ثُمّ جاءت موجةٌ جديدة عُرِفَتْ باسم "الرّبيع العربي"، غير أنّها لم تصمدْ طويلًا بدورِها، لذلك ظلّت إشكاليّة الإصلاح السّياسي قائمةً وإن بحماسةٍ أقلّ مما كانت عليه قبل سنوات قليلة.
لم تتمكّن النُّخَب العربية من صياغة برنامجِها للتّغيير والإصلاح بأبعاده السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة
تمحور سؤال الإصلاح - وليس سؤال النّهضة كما تكرّس ذلك في مُتون الفِكر العربي - في الفضاء العربي في بدايته حول أسْباب تقدّم الغرب وتأخّر العرب، فإنّ مجال السّؤال الجُغرافي والمَعرِفي قد توسّع بعد أن تمكّنت اليابان، التي كانت ظروفها شبيهةً بظروفِنا، ثم إندونيسيا وماليزيا ودول شرق أوروبا التي عرفت إصلاحاتٍ واسعةً وجذريّةً أحيانًا، كانت سببًا من أسبابٍ أخرى، أفضى إلى نهضتِها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعلميّة، وعلى الرّغم من خُصوصيّة مضمون كلّ تجربة من تلك التّجارب وتنوّع أشكالِها واختلاف شروط تحقيقِها، فإنّها عملت على إرساء النّظام الدّيموقراطي في الحُكم وفي التّسيير.
كما كان للمُثقّف في بلدان أوروبّا الشّرقيّة وآسيا دورًا أساسيًّا في بناءِ نُواة حركةِ الإصلاح، من خلال النّشاط في الأندية واللّجان والحلْقات الثّقافيّة والمَدنيّة. كما لعب المُثقّف دورًا فاعلًا وناجعًا في بلورة برامج التّغيير والإصلاح وتحديد آليّات العمل والمُقاومة.
المُلاحَظ هنا أنّ ما جرى في بلدان أوروبّا الشّرقيّة، كانت بعض الأقطار العربيّة في المشرِق والمغرِب قد عرفت أشكالًا منه منذ النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر، حيث برزت العديد من الجمعيّات والأندية الأدبيّة والثّقافيّة والعِلميّة العربيّة، بل شكّلت نواةً لحركة إصلاحٍ وتغييرٍ بأفقٍ عروبيٍ تحرّريّ، إلّا أنّ هذا التّقليد قد انحسر وتقلّص إلى حدّ بعيد بعد حصول تلك الدّول على استقلالها السّياسي واندماج أغلب المثقّفين، بتبريراتٍ مُختلفة، في أُطُر الدّولة الوطنيّة الجديدة، وتبنّوا خطابَها السّياسي وتحمّسوا له والقليل منهم صمدَ وقاوَمَ، غير أنّ عمل تلك الفئة كان معزولًا وبعيدًا عن القوى القادِرة على التّغيير والإصلاح والتي لها مصلحة في ذلك.
لم تتمكّن هذه النُّخَب من صياغة رؤيتِها وبرنامجِها للتّغيير والإصلاح بأبعادِه السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، فظلّت تعيش على الهامش تُلاحِق الأحداث من دون القدرة على توجيهِهَا أو تحويل وجهتِها بما يخدم برامجها، وبذلك أضاع المُثقّف البوصلة وحاد عن القيامِ بوظيفتِه المُفترضة تجاه المجتمع، إلى أن استفاق الجميع على وقعِ تمدّد القوى السّلفيّة والتّطرّف الدّيني واستحقاقات العوْلمة المُختلفة، مما شكّل تهديدًا فعليًّا للجميع.
فرض هذا التّهديد ما يُشْبِهُ التّحالف الموضوعي بيْن السّلط الحاكمة وقطاعٍ واسعٍ من المُثقّفين، لكنّه كان تحالفًا هشًّا غير متكافئ وعلى الرّغم من ذلك، وفي إطار الصّراع مع القوى الجديدة، أنعش نسبيًّا إنتاجًا ثقافيًّا ومعرفيًّا يمكن وصفه بأنّه كان عقلانيًّا مقاوِمًا لكنّ حصيلتَه كانت محدودةً جدًا وغير مؤثّرة، وذلك لفقدانِه قاعدةً اجتماعيّةً متينةً نتيجةً لانتشار الأمّيّة التّعليميّة والثّقافيّة ومحدوديّة نسبة التّمدْرس.
ظلّ خطاب الإصلاح والتّغيير غريبًا عن البيئة العربيّة، بل مشبوهًا عند البعض، وفاقدًا للمصداقيّة عند البعض الآخر، بعد ارتباطه موضوعيًّا بمشاريع الغرب ومصالحه من ناحية، ونتيجةً للعلاقة التّاريخيّة المتوتّرة أصْلًا بين الغرب والعرب عمومًا.
من النّاحية التّاريخيّة، كانت محاولات الإصلاح الأولى التي عرفتها الدّولة العُثمانيّة (خط شريف كلخانة 1839، التّنظيمات 1856، دستور 1876) وبعض دول المغرِب العربي (عهد الأمان سنة 1857 ودستور 1861 في تونس مثلًا)، مفروضةً من قبل الدّول الغربيّة لتُشكّل فيما بعد إحدى أهمّ وسائل السّيطرة والهيمنة الغربيّة غير المباشِرة ثم الاحتلال العسكري المباشِر لأغلب المناطق العربيّة.
ظلّ همّ الغرب السّعي للحفاظ على الأوضاع العربيّة الرّاهنة على الرّغم من بؤسها
لهذه الأسباب وغيرها، بقيت الثّقة في هذا الغرب مهزوزةً ومشبوهةً كما أثبتت تجارب الماضي والحاضر، ومن هنا تولّدت إشْكاليّة إضافيّة جديدة واجهت تيّارات الإصلاح العربيّة، على الرّغم من أنّ دور القِوى الاجتماعيّة والثّقافيّة كان محدّدًا وأساسيًّا في عملية التّغيير والإصلاح غير أنها تظلّ عند البعض، في حاجة إلى رافعةٍ من الخارج حتى تكتمل العمليّة.
يبدو الأمر شديد التّعقيد في العالم العربي، إذ لا توجد في الواقع قِوى اجتماعيّة حاملةً للمشروع وذات قُدرة وفاعليّة للسّير به إلى مداه من ناحية، بالإضافة إلى تردّد الغرب وعدم حماسه لمشاريع التّغيير والإصلاح في العالم العربي من ناحية أخرى إلّا بشكلٍ محدود، إذ ظلّ همّ الغرب السّعي للحِفاظ على الأوضاع العربيّة الرّاهنة على الرّغم من بؤسِها ما دامت لا تُشكّل خطرًا حقيقيًّا على مصالحه، في الوقت الذي لا يتردّد في الحفاظ على علاقتِهِ ببعض أفراد النّخبة التي يوظّفها ويحرّكها، بوعيٍ أو من دون وعيٍ منها، في الظّروف المُناسبة لخدمة مصالحه حتى وإن كان ذلك يتنافى ومصالح أوطان تلك النّخبة.
وبالنّتيجة نعتقد أنّ إشكاليّة الإصلاح والتّغيير ستظلّ قائمةً بتعقيداتِها الوطنيّة والإقليميّة والدّوليّة إلى أن تحسمَ النُّخبة العربيّة الحاكِمة من جهة والنُّخب من ناحية أخرى أمرَها وتُجَسِّر الفجوة القائمة بينها من خلال تقديم تنازُلاتٍ مُتبادَلَة قد تكون مؤلمةً أحيانًا لهذا الطّرف أو ذاك ولكنّها ضروريّة، ثم المُباشرة في صياغةِ برنامجٍ للتّغيير والإصلاح لصالح الوطن لصدّ الأخطار الدّاخليّة والخارجيّة التي قد تَلتهمُ الجميع.
(خاص "عروبة 22")