وجهات نظر

انتماء دمشق عربي... فأين العربُ منها؟

لم يكن العربُ مدعوّين للحضور الفاعِل في أرض الشّام كما هُم مدعوّون اليوم، وإلّا فمتى سوف يكون حضورهم الفاعِل إذا لم يكن في هذا الظّرف الرّاهن؟.

انتماء دمشق عربي... فأين العربُ منها؟

على الرّغم من أنّ عبارة "أرض الشّام" تتّسع في الوعيِ العامّ حتى تكاد تضمّ سوريا ولبنان والأردن وفلسطين معًا، إلّا أنّ الإخوة في سوريا اعتادوا أن يقولوا عن دمشق إنّها الشّام. ففي الدْراما السّوريّة، يُسافر المواطن السّوري من حلب في شمال البلاد إلى العاصِمة فيقول إنّه ذاهبٌ إلى الشّام، وحين يقول ذلك فإنّ الحلبيّين يفهمون على الفور أنّه ذاهب إلى دمشق.

بالضّبط كما يقول المِصري إنّه ذاهب إلى مِصر إذا قصدَ القَاهِرَة من أسْوان في الجنوب، أو إذا جاءها من أيْ محافظة من محافظات الدّلتا في الشّمال، وفي الحالتَيْن فإنّ قاهرة المُعِزّ لدى أبناء الأقاليم هي مِصر إلّا في أقلّ القليل.

ولكنّ الشّام كما يقول عنها السّوريّون، أو دمشق كما نعرفها نحن خارج سوريا، تَجِدُ نفسها هذه الأيام في محنةٍ لم يسْبق أنْ مرّت بها في تاريخِها المُعاصر، وإذا كانت في أشدّ الحاجة إلى طرفٍ في المنطقة، فهذا الطّرف لن يكون الطرف الإيراني كما حدث في زمنٍ مضى، ولا يجوزُ أن يكون هو الطرف التركي على نحوِ ما يبدو ممّا نتابعُه في الظّرف القائم.

مفتاح مُجريَات الأمور في سوريا ينتقل من الإيراني إلى التّركي بينما الواجب أن يكون في يد السّوريين ثم في يد العرب

في زمنٍ مضى، وبالتّحديد من أيامِ ما يسمّى بـ"الرّبيع العربي"، عاشت طهران تؤسّس لنفوذٍ سياسيٍ واسعٍ في دمشق، وبأكثر ممّا كان فيها لأيّ عاصمة عربيّة. كان هذا مما يبعث على الأسَى، ولكنّه كان واقعًا نراه ونرى ملامحَه ولا نكاد نصدّقُه.

ومما أذكره من تفاصيلِ زيارةٍ إلى دمشق ضمن وفدٍ صحافيٍ عربي في أغسطس/آب 2015، أنّ هذه القضيّة كانت من بين القضايا التي أثارهَا أعضاءُ الوفد على مسمع أكثر من مسؤولٍ سوري، وكان وليد المعلّم وزير الخارجيّة السّوري وقتها، أحد المسؤولين السّوريّين الذين سألناهم في القضيّة وانتظرنا ردّهم فيها.

وحين جاء دورُه في الإجابة كان صريحًا ولم يَشَأْ أنْ يُخفيَ شيئًا، وكان ممّا قاله أنّ الإيرانيّين حاضرون بالفعل في بلادِه، وأنّ حضورَهم حاصل بأكثر من الحضور العربي بكثير، بلّ إنّه لا وجْه للمقارنة بيْن حضورِ الإيرانيّين وبين حضور العرب، ولكنّ السّبب كما ذكره الرّجل، أنّ العرب غابوا فحضر الإيرانيّون مكانَهم.

بدا الأمر وقتها وكأنّ وزير الخارجيّة السّوري العتيد يُلقي الكرةَ في الملعب العربي، وعلى الرّغم من أنّ ما قاله جرى نشرُه في حينِه إلّا أنّه لم يجد صداه لدى الطّرف العربي، ولم يُدْرِك العرب المعنيّون بكلام الوزير المعلّم أنّ ما يقوله يحمل دعوةً غير مباشرةٍ لهم، وأنّه يكاد يدعوهم إلى الحلول تدريجيًّا محل الطّرف الإيراني.

ومن أغسطس/آب في تلك السَّنَة إلى الثّامن من ديسمبر/كانون الأوّل من هذه السّنَة حين سقط نظام حُكْم الأسد، دام الغيابُ العربي عن دمشق، وبَدَت دمشق وحدها في مواجهة "هيئة تحرير الشّام" وهي تزحف نحوها من الشّمال، ولم تكن المشكلة في "الهيئة" في حدّ ذاتِها، فأعضاؤها سوريّون في النّهاية كما ظهر في مرحلةِ ما بعد سقوط نظام الأسد، ولكنّ المشكلة كانت ولا تزال في الأطراف الدّوليّة والإقليميّة الّتي وقفت وراء هذه "الهيئة"، وبالذّات الطّرف التّركي كطرفٍ إقليمي في المنطقة.

بدا هذا الطّرف في أوّل الأمر على استِحياء في خلفيّة الصّورة، وفي مرحلةٍ تالية برز دورُه وأخذ مساحةً أكبر في الصّورة، ومع مرور الوقت راح يقدّم نفسَه ويُسوّق لما قام ويقوم بِه، وكشف عن وجهِه بشكل صريح ومُعلَن.

إذا مَرِضَت دمشق فالمرض لا يتوقّف عند حدودها وإنّما يُصيب المناعة العربيّة

والغَريب أنّ الكشف عن وجهِه لم يكن من خلالِه هو مباشرةً، ولكنّه جرى من خلال الطّرف الأميركي، وكان ذلك حين صرّح الرّئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب بأنّ مفتاح مُجريات الأمور في سوريا سيكون لدى تركيا!

هذا كلامٌ موجعٌ لكلّ عربيٍ في الحقيقة، لأنّ معناه أنّ مفتاح مُجريات الأمور في سوريا ينتقل من الطرف الإيراني في أيام الأسد، إلى الطرف التّركي في أيام السّلطة الجديدة، بينما الواجبُ أن يكونَ في يد السّوريين أنفسِهم، ثم في يدِ العرب الذين هُم انتماء سوريا الأصلي.

الوَضعيَّة التي يتكلّم عنها ترامب وضعيَة شاذَّة، ولا يجوز أن تكونَ محلّ رضًا عربي، والأملُ أن يصادِفَ عدم الرّضا العربي عن هذه الوضعيّة الشّاذّة ترجمةً عمليّةً على الأرض، وأن تقترنَ التَّرجمَة العمليّة بفعلٍ عربي له حضور هناك في "الشّام"... إنّ "عزّ الشّرق أوّله دمشق"، كما قال أمير الشّعراء أحمد شوقي، وإذا مَرِضَت دمشقُ فالمرضُ لا يتوقّف عند حدودِها، وإنّما يُصيبُ المناعةَ العربيّة في أكثر من موْضِع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن