قضايا العرب

"الهجرة" كابوس يؤرق التونسيين: لن نكون "حرّاس حدود"!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

بات ملف المهاجرين الأفارقة، يمثّل عبئًا كبيرًا على تونس التي تعيش على وقع أزمة اقتصادية ومالية خانقة. ففي الوقت الذي تحاول فيه تجاوز التبعات الوخيمة لأعمال العنف الأخيرة ضد المهاجرين في إحدى محافظاتها، سارع الاتحاد الأوروبي إلى استغلال ارتباك تونس وانهيار اقتصادها ليدفعها باتجاه إبرام اتفاق شامل هدفُه المعلن مواجهة مشتركة لأزمة الهجرة مع مغريات اقتصادية ومالية، بينما تقول كل المؤشرات إنّ الغاية الحقيقية من هذا الاتفاق هو تحويل تونس إلى "حارس حدود" لأوروبا.

كانت الليلة الفاصلة بين يومي الثالث والرابع من يوليو/تموز بمثابة الانطلاقة الحقيقية لأزمة المهاجرين الأفارقة في تونس، عندما تعرّض مواطن تونسي يبلغ من العمر 42 عامًا للطعن على يد مهاجرين من جنوب الصحراء ما أدى إلى وفاته... انتشر الخبر بسرعة على نطاق واسع، خاصة بعد نشر فيديو وثّق مقتل الرجل، فأجّجت حادثة القتل الأجواء في المدينة منذ ليلة وقوع الجريمة، وظهرت عدة مجموعات من أبناء محافظة صفاقس على مواقع التواصل الاجتماعي تتوعّد بطرد المهاجرين الأفارقة والأخذ بزمام الأمور، متهمين الدولة بالتقاعس وترك مدينتهم وحيدة تواجه ما أسموه "غزو" المهاجرين غير الشرعيين.

لم يتأخّر التنفيذ، هاجمت هذه المجموعات المهاجرين في عدة أحياء من المدينة وأجبروهم على مغادرة منازلهم بطرق مروّعة تراوحت بين الضرب والإهانة وافتكاك الأمتعة ومصادرة الهواتف والنقود. سقط العديد من الجرحى خلال هذه الأعمال، لتتدخل قوات الأمن متأخرًا وتتولى فضّ أعمال العنف قبل أن تنقل المهاجرين بعيدًا عن تلك الأحياء، ونقل الجرحى إلى المستشفيات كما روت آمال، واحدة من الشهود العيان على ما جرى تلك الليلة، لـ"عروبة 22".

في اليوم التالي، وجد بعض المهاجرين (جنوب الصحراء) أنفسهم على قارعة الطريق في إحدى الساحات العامة وسط المدينة وقد فقدوا كل شيء، فيما نُقل البعض الآخر على الحدود مع ليبيا والجزائر في طقس حار بلا مأوى، وفرّ آخرون إلى مدن أخرى، لا سيما العاصمة.

وتناقلت وسائل الإعلام والمنظمات الإنسانية الأوضاع المأساوية للمهاجرين، ووجدت السلطات التونسية نفسها في مرمى الانتقادات من كل صوب من الداخل والخارج. ورغم محاولاتها امتصاص الأزمة إلا أنها لم توفّق لأنها أساءت إدارة الملف منذ البداية.

أزمة قديمة وسوء تعاطي

منذ السنوات الأولى التي تلت ثورة 14 يناير 2011، بدأت تونس تشهد تدفق أعداد كبيرة للمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، خاصة بعد إلغاء الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي تأشيرة الدخول من عدة دول أفريقية. وعلى مدار السنوات الماضية لم تتعامل أي حكومة جديًا مع هذا الملف ما دفع بعض المراقبين لاتهام السلطات بأنها تعمّدت غضّ الطرف عن التدفق الكبير للمهاجرين غير الشرعيين إلى تونس لأهداف غير معلومة. وتضاعفت هذه الأعداد في السنوات الأخيرة (أكثر من ثلاث سنوات) بشكل لافت وبخاصة في محافظة صفاقس التي أصبحت قبلة لهؤلاء الذين يدخلون عبر الحدود الجزائرية والليبية إلى تونس، سيرًا على الأقدام، أو بمساعدة شبكات تهريب المهاجرين وبتواطؤ من السلطات بلا شك.

تدريجيًا، أصبح وجود المهاجرين من جنوب الصحراء لافتًا في المدينة، وباتوا يشكّلون أغلبية في بعض الأحياء، فضلًا عن تمركزهم الكبير في عدة ساحات وتحويلها إلى فضاء لممارسة عدة أنشطة كالحلاقة وبيع عدة منتوجات جديدة على المدينة قادمة من أفريقيا، كالملابس والأحذية والأكسسوارات والعطور والبخور والبهارات وغيرها.

لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ بدأ المهاجرون يقترفون مخالفات وأعمال عنف أقلقت أبناء المدينة. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، عمدوا في أغسطس 2021 إلى تكوين "مركز أمن" موازٍ يتلقى شكاوى الأفارقة جنوب الصحراء ويحل النزاعات بينهم ويرسل الإستدعاءات العدلية ويقوم بعمليات مداهمة للمنازل، شملت العديد من المهاجرين بينهم سيدة مهاجرة كشفت أنّ "20 شخصًا داهموا منزلها وسرقوا منه سبعة آلاف دينار". كما بدأت الأحياء التي تقطنها أعداد كبيرة من المهاجرين تشهد أعمال عنف مسلحة (سكاكين، سيوف..) فيما بينهم، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى في عدة مناسبات، في ظلّ غياب لقوات الأمن التي لم تكن تتدخّل لفض تلك الأحداث، أو أنها تتدخل متأخرة كما يروي أبناء المدينة.

في خضم هذه الأحداث، ومع استمرار التدفق الكبير للمهاجرين للمدينة، بدأ الأهالي يشعرون بالخوف من وجود مخطط لتوطينهم في مدينتهم، ومن تفاقم أعمال العنف التي أصبحت تهدّد أمنهم، فبدأوا بتنظيم سلسلة تحركات احتجاجية، كان آخرها في يونيو الماضي، طالبوا خلالها السلطات بإخراج المهاجرين من المدينة. لكنّ نداءاتهم لم تلقَ أيّ تجاوب يُذكر بل واصلت السلطات لعب دور المتفرّج على التدفقات الكبيرة للمهاجرين القادمين برًا وبحرًا إلى مدينة صفاقس بشكل خاص، حتى بدأت تظهر مناوشات بين المواطنين والمهاجرين وثّقها بعض الناشطين وبلغت ذروتها عندما قُتل أحد أبناء "الجهة".

لم تتوقع السلطات التونسية انفلات الأمور، رغم أنها كانت ترى عوامل الانفجار منذ البداية وتراخت في معالجتها قبل حدوث الكارثة. فالدولة تجاهلت أولًا نداءات أهالي محافظة صفاقس ولم تبدِ أيّ جدّية للحد من دخول المهاجرين غير الشرعيين يوميًا إلى مدينتهم تحت أعين حرس الحدود برًا وبحرًا.

ويقول أفراد من مجموعة صيادين التقتهم "عروبة 22": "كنا نرى يوميًا أفواجًا من مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء يتمّ إخراجهم من البحر ثم يضعهم خفر السواحل في المرفأ ويتركونهم ليمضوا حيث يشاؤوا، وكنا نرى الحافلات تقلّ المئات من مدن أخرى دون أي اعتراض من قوات الأمن". أدى هذا التجاهل إلى تفاقم غضب الأهالي الذين اعتبروا الدولة شريكًا فيما يحدث. كانت السلطات تتابع وتعاين ارتفاع وتيرة الغضب في صفوف أبناء "الجهة" دون أن تقدّم أي تطمينات تُذكر لهم. ولهذا بدت مرتبكة وعاجزة عندما قرر بعضهم القيام بالدور الذي تراخت عن القيام به منذ البداية، عبر إخراج المهاجرين وإن كان بطرق وحشية، وعندما تدخلت متأخرًا ارتكبت أخطاء كبيرة". 

كذلك، كانت هناك حملة عدائية وعنصرية ضد المهاجرين جنوب الصحراء سكتت السلطات التونسية عنها، ولم تقدم على أي خطوة ردعية ضد مروّجيها، وكان من بينهم بعض الأحزاب السياسية وبعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. بل وانخرط الرئيس التونسي قيس سعيد، وإن كان بلا قصد، في هذه الحملة عندما اعتبر في فبراير الماضي أنّ استفحال ظاهرة الهجرة في بلاده مؤامرة "لتغيير التركيبة الديمغرافية". وأسفر الصمت الرسمي عن تمادي العنصريين وخروجهم من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع بوجه قبيح ظهر خصوصًا إثر مقتل أحد أبناء محافظ صفاقس ما أوقع الدولة في ورطة كبيرة.

حتى بعد تلك الحادثة أساءت السلطات التونسية التقدير، إذ سارعت إلى إبعاد المهاجرين عند الحدود الليبية والجزائرية في ظروف إنسانية صعبة، في محاولة منها لامتصاص الغضب في محافظة صفاقس وخارجها دون أن تفكّر في التبعات الممكنة لهذه الخطوة. وفيما كان الارتباك سيد الموقف، سارعت سلطات غرب ليبيا إلى تقديم صور وتقارير عن ظروف صعبة يعيشها لاجئون أفارقة عند الحدود مع تونس، تضمنت شهادات للاجئين قالوا إنّ تونس قد ألقت بهم على الحدود في درجة حرارة عالية دون ماء وغذاء. أثارت الصور والفيديوهات التي نشرتها السلطات الليبية انتقادات واسعة ضد تونس ووضعتها في موقف مُحرج. ولم تستطع السلطات تدارك الأمر حتى بعد أن تولّت نقل المهاجرين إلى مراكز إيواء وقدمت الرعاية اللازمة لهم. في حين نجحت ليبيا التي تطرد المهاجرين وترسلهم إلى الأراضي التونسية، في استثمار فشل السلطة التونسية وجعلها تبدو أمام العالم في صورة البلد المعادي للمهاجرين.

حسب المعهد الوطني للإحصاء يُقدّر عدد المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء بـ21.466 شخصًا، فيما يُقدّر عدد من المنظمات الأخرى عدد المهاجرين الأفارقة بنحو 50 ألفًا، أغلبهم لا يملكون وثائق قانونية.

وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد أعلن عام 2020 أنّ عدد العمّال الأفارقة في تونس يُقدّر بأكثر من 700 ألف، وأنّ عددهم تضاعف ما بين 2017 و2020، بسبب تدفق المهاجرين غير الشرعيين ممن كانوا يعملون في ليبيا بسبب الحرب.

أوروبا على الخط

وفي خضم هذا الجدل الذي لم ينتهِ بعد حول المهاجرين جنوب الصحراء في تونس، سارع قادة الدول الأوروبية للتفاوض مع تونس من أجل التوصل لاتفاق كفيل بحل أزمة الهجرة غير الشرعية. وبعد زيارات متتالية، وقّعت بروكسل وروما في 16 يوليو الماضي مذكّرة تفاهم مع الرئيس التونسي تنصّ خصوصًا على مساعدة أوروبية بقيمة 105 ملايين يورو، وتهدف إلى منع مغادرة قوارب المهاجرين سواحل البلاد ومحاربة المهرّبين. إلى جانب تقديم تمويلات أوروبية تصل إلى 900 مليون يورو في حال اتفقت تونس مع صندوق النقد الدولي، فضلًا عن عودة المزيد من التونسيين الذين هم في وضع غير نظامي في الاتحاد الأوروبي.

انتظر التونسيون أن تكون المفاوضات والاتفاق فرصة لتصحيح علاقة البلاد بالاتحاد الأوروبي، لكن أتت النتيجة مخيّبة للآمال. فالمغريات الاقتصادية بدت غامضة وغير محددة زمنيًا في وقت يحتاج فيه الاقتصاد التونسي إلى مساعدة آنية وهو ما يؤكده الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي، بقوله لـ"عروبة 22": "الاتفاق هو عبارة عن مذكرة تفاهم وليس اتفاقية تعاون، وبالتالي هي وثيقة غير ملزمة للطرفين، لا يوجد فيها أية تفصيلات مهمّة تتعلق بنوعية المشاريع المقترحة، وبالمبالغ المرصودة لها، وخاصة فيما يتّصل بالمبلغ المرصود لدعم الميزانية، الموضوع الأهم بالنسبة لتونس"، مضيفًا: "احتياجات تونس آنية وتتعلق بتوفير العملة الصعبة اللازمة لإنعاش خزينة البنك المركزي، لكنّ الوثيقة تحدّثت عن دعم الميزانية دون أن تحدّد المبلغ والتوقيت، فلا توجد مساعدات أو قروض آنية واضحة، ويبقى السؤال هل أنّ إرجاع التونسيين غير النظاميين سيتزامن مع الانطلاق في تنفيذ هذه المشاريع؟ أم أنّ الأهم هو التخلّص من المهاجرين التونسيين غير النظاميين وقبولهم من طرف تونس، ثم الانتظار حتى تتحدّد نوعية هذه المشاريع وطرق تمويلها.".

ورغم إصرار الرئيس التونسي على أن بلاده لن تكون "حارسًا للحدود" الأوروبية، فإن مضامين الاتفاق تفيد بأن تونس ستتحوّل أكثر من ذلك إلى "مركز لتوطين المهاجرين".

ويشدد رمضان بن عمر الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المكلف بالهجرة لـ"عروبة 22" على أنّ "المذكرة كشفت أنّ تونس ستتلقى تمويلات لتعزيز تجهيزات الحرس البحري بمنظومات ردارية وطائرات بلا طيار وتدريبات، وكل هذا فقط للعب دور الحارس. أما النقطة المتعلقة بتكفّل الإتحاد الأوروبي بعملية إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم فتعني أن الإتحاد الأوروبي سيتكفّل بالمسألة المادية، في حين تتولى تونس تجميعهم بمراكز لمنعهم من الهروب. بمعنى أنها عملية تشرعن احتجاز المهاجرين في تونس بشكل دائم بعد أن كان وجودهم ظرفيًا نظرًا لصعوبة إعادتهم لأوطانهم".

لقد أحسنت أوروبا استغلال أزمة عربية جديدة، فقدمت لتونس الرازحة تحت أعباء أزمة اقتصادية جملة من المغريات المالية التي تحتاجها البلاد بشدة، مقابل أن تتولّى السلطات التونسية مهمة... لن تكون بكل تأكيد قادرة على تحمّل تكلفتها الباهظة على المديين القصير والمتوسط.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن