تفاسير متعدّدة وراء ما يجري لسنا بصددِ مقاربتها في هذه السّطور، منها برأي عددٍ من المُراقبين هو الدّور الإيراني المُتنامي منذ بداية الثّمانينيّات وبالتّحديد تصدير ثورتِه المَذهبيّة المُتشدّدة، وبلغ ذروته بحيْث لم يعد خافيًا على أحد إبّان الحرب الكارثيّة في غزّة منذ أكثر من سنة.
إنّ تنامي الدّور الإيراني يفتحُ البابَ أمام موضوعٍ مرتبط ولا يقلّ أهمّيةً وهو العلاقة الرّوسيّة - الإيرانيّة التي بدأت تأخذ منحًى جديدًا على الرّغم من أنّها ليست مُستجدّة وتوصفُ بالدّافئة بل الحميمة منذ الثّورة الإسلاميّة سنة 1979.
تسارُع العلاقة الروسية الإيرانية يظهر في الاتفاقات الاقتصاديّة والتّجاريّة والسّعي لتطويرها إلى المستوى الإستراتيجي
أوّل ما يتبادر إلى المُتابع أنّ العلاقات بين الرّوس والإيرانيّين مُحفِّزُها أساسًا عداء الجهتَيْن للولايات المتّحدة وسعيهما الدّائم لإضعافها في المنطقة لا بلّ محاولة إخراجها منها، كذلك مُناهضة الغرب عامّة، مع هدف تغيير النّظام الدّولي الغربي بِقِيَمِه وبناء نظامٍ دولي مُتعدّد الأقطاب، مع رفضهِما توسّع حلف شمال الأطلسّي (الناتو) شرقًا، وتقارُب نظرتهِما إلى ثورات "الرّبيع العربي"، باعتبارِها مؤامراتٍ غربيّة رامية إلى إعادة تشكيل شرقِ أوسطٍ جديد، من دون النّفوذ الرّوسي والإيراني، وهو ما أسهم في تلاقي الدّولتَيْن، وكانت سوريا قد شكّلت أوّل ساحات هذا التّعاون.
التّسارُع المُلفِت للعلاقات بيْن البلدَيْن يَظهرُ في الاتّفاقات الاقتصاديّة والتّجاريّة، والسّعي لتطوير العلاقة إلى المستوى الإستراتيجي، بالنّظر إلى أهميّة الاقتصاد والتّجارة في السّياسة، على الرّغم من كلّ التّحدّيات السّياسيّة والجيوسياسيّة والاقتصاديّة التي تحدّ من بلوغِها علاقة إستراتيجيّة، إضافةً إلى شبه انعدام الثّقة تاريخيًّا بينهما.
دعم روسي للمنظّمات خارج الدّولة وأغلبها حليفة لطهران ومنفِّذة لسياستِها في المنطقة
العلاقة الرّوسيّة - الإيرانيّة ليسَت عَرَضِيّة وهامشيّة في ملف أمن الإقليم طالما إيران المُتراجعة أمام الأميركيّين لا تزال مصمّمةً على اللّجوء إلى السّلاح عبر أدواتِها في المِنطقة. لا ضيْر في علاقاتِ تعاوُنٍ بين بلدَيْن، إنّما في حالة طهران وموسكو الأمر مُختلف بالنّسبة للمِنطقة لأنّها تُعاني من حلفاء إيران وممارساتِهم آخرها حثّ "حزب الله" على إطلاق "حرْب المُساندة" من جنوب لبنان وإسناد الحوثيّين في اليمن بعرقلة المِلاحة البَحريّة وتهديد دول الجِوار بحجّة محاربة إسرائيل.
يُمكنُ إيجاز تداعيّات، لا بل سلبيّات تَنامي العلاقات بيْن طهران وموسكو بالعناوين الرّئيسة التّالية:
- الخطورة في تطوّر العلاقات الرّوسيّة - الإيرانيّة، هو المنحى المُتصاعد المُتمثّل بالتّعاون العسكري بينهما بدءًا بتزويد إيران لموسكو بالمُسيَّرات المُستعملة في الحرب الأوكرانيّة، إضافةً إلى صواريخ باليستيّة مقابل تكنولوجيا روسيّة متطوّرة تخدم إيران في مشروعِها النّووي وغيرها من التّقنيّات المُحدثة.
- العلاقاتُ الوَطيدة بيْن الرّوس والإيرانيّين هي بالمحصّلة والعموم دعمٌ لسياسة ونفوذ إيران في الإقليم. وطالما إيران على سياستِها الهادفة إلى التّدخّل في شؤون الدّول العربيّة على قاعدة ما حدّده المُرْشِد السّيد علي خامنئي عن "الصّراع بيْن جبهةِ الحُسيْن وجبهةِ يَزيد"، تبقى تمكينًا للسّياسة الإيرانيّة وتقلّل من الضّغط الرّوسي عليها في مختلف المواضيع او الأزمات التي تهمّ العرب.
- العلاقات تساعد على التّقدّم في المشروع النّووي وتخفّف من الضّغوط على إيران. إنّما يجدر أن نذكّرَ بضعف الثّقة بيْن البلدَيْن وحذر إيران من توظيفِ موسكو لعلاقاتِها بطهران مقابِل تحسين العلاقات بينها وبين واشنطن.
تَماهي النّزعة الاستعلائيّة الفارسيّة تجاه العرب مع ما يحاكيها لدى الأوساط الرّوسيّة اليَمينيّة والمُستشرقِين الرّوس
- الدّعم الرّوسي للمنظّمات خارج الدّولة وما دون الدّولة سِياسيَّا وعَسكريَّا من اليمن إلى سوريا (قبل سقوط نظام الأسد) والعراق ولبنان وأغلبها حليفة لطهران ومُروّجة، لا بل منفِّذة لسياستِها في المنطقة. فمنذ هجوم "حماس" على إسرائيل في السّابع من أكتوبر/تشرين الأول، أيّد فلاديمير بوتين بشكل أوثق القِوى المُعاديَة لأميركا والمُزعزعَة للاستقرار في الشّرق الأوسط.
- التّعاون الرّوسي - الإيراني في قطاعَيْ النّفط والغاز من شأنِه أن يُشَكِّلَ مِحورًا مع غيره من الدّول يؤثّر في النّفوذ والسّياسة النفّطية للمملكة العربيّة السّعوديّة في المنظّمات الدّوليّة.
- إضعاف الدّور الرّوسي كوسيطٍ مُحايدٍ في مسارات تَسوية النّزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بفعل التّحالف مع إيران الدّاعمة لكلّ ما من شأنِه تَعطيل التّسويَة الشّاملة و"حلّ الدّولتَيْن" وبسط الاستقرار والأمن في الإقليم.
- تَماهي النّزعة الاستعلائيّة الفارسيّة تجاه العرب عامّة مع ما يحاكيها لدى الأوساط الرّوسيّة اليَمينيّة خاصّة، ولدى عدد من المُستشرقِين الرّوس.
- إذا كانت الحرب السّورية قد أسهمت في تَوطيد العلاقات الرّوسيّة - الإيرانيّة، فإنّ الحرب الرّوسيّة - الأوكرانيّة عزّزت أواصر العلاقة وأعطتها أبعادًا جديدة أكثر من التّعاون العسكري، جعل من طهران تعتمد الخطاب الرّوسي بشأن الحرب، وتدعمها عسكريًّا فيها.
حقّ النّقض الروسي يمكّن دور إيران وتأثيرها لا سيما تجاه العرب ومصالحهم واستقرار دولهم ومجتمعاتهم
مهما قيل عن العلاقات بيْن روسيا وإيران إنّها شراكة الضّرورة وإنّ عامل الثقة هشّ ومصالح البلدَيْن مُتضاربة أحيانًا، يبقى أنّ حلفًا متكاملًا يجمع بين إيران وروسيا والصّين وكوريا الشّماليّة وغيرِها من الدّول المُناهضَة لأميركا والغرب على الصُّعد كافّة ولا تقتصر على السّياسة والأمن والنّظام الدّولي والمصالح الاقتصاديّة، بلّ إنّ الجَوامعَ المُشتركة بيْن هؤلاء تَطال الثّقافة وطُرق العيش ومفاهيم الدّيموقراطيّة وحقوق الإنسان، من دون أن يعني ذلك أنّها على عقيدةٍ واحدة ونظامٍ سياسي واحد.
المخاوف العربيّة من العلاقة الرّوسيّة - الإيرانيّة مبرَّرة، بخاصةً أنّ روسيا لم تعد الدّولة العُظمى وإنْ ما زالت عضوًا في مجلس الأمن مع حقّ النّقض جرّاء ما كشفته الحرب الأوكرانية، ما يمكّن دور إيران وتأثيرها في مسارات العلاقة ويحدّ من فعّالية الدّور الرّوسي، ولا سيما تجاه العرب ومصالحِهِم وخياراتِهِم واستقرارِ دولِهِم ومجتمعاتِهِم.
دول الإعتدال العربي، وهي ما تبقّى من عالمِنا العربي من دون أن تتشظَّى من الحروب والنّزاعات الأهليّة ولم تدخل نادي الدّول الفاشلة أو المُتعثّرة بأحسن الأحوال، حصانتُها هي مراعاة مصالحِهَا الوطنيّة وتوطيد أواصر التّعاون والشّراكة فيما بينها أوّلًا وبَيْنَها وبيْن الدّول التي تلتقي معها لما فيه مصلحة شعوبِها ورفاههم وحرّيتهم.
(خاص "عروبة 22")