على عكسِ ما يعتقدُه الرّومانسيّون العرب، فإنّ تغيير الأنظمة عادةً يؤدّي لتدهورٍ اقتصادي عميق بسبب الاضطرابات، وما يعقب التّغيير عادةً من تولّي سلطاتٍ ضعيفة لا تستطيع، أمام الخطاب الاجتماعي الصّاعد، اتّخاذ إجراءات اقتصاديّة قاسيَة لوقف الانحدار.
والتّحدّي أكبر في سوريا، نظرًا لحالة الاقتصاد الكارِثيّة، ولكن هناك أشياء يمكن البِناء عليها، منها الاستفادة من عودةِ بعض المُهاجرين الذين سيكونون قلّةً غالبًا بسبب الوضع الاقتصادي، ولكنّ الأهمّ إمكانيّة العودة المؤقّتة لعددٍ كبيرٍ من المُهاجرين خلال العطلات الصّيفيّة، حيث سيُنفقون العملات الصّعبة داخل البلاد، وقد يُعمّرون بيوتَهم، ويحوّلون الأموال لذويهِم، على غرار لبنان، الذي تُمثّل أموال المُهاجرين المَصدر شبه الوحيد للدولار للبلاد المأزومة اقتصاديًّا.
مستقبل سوريا الاقتصادي مرتبط بشكل كبير بمستقبلها السّياسي الغامض
لدى سوريا حاليًّا، واحدة من أعلى نِسب المهجّرين في العالم (13.8 مليونًا داخليًّا وخارجيًّا) ولقد بدأ عددٌ معقولٌ منهم بالتّأقلم وتحقيق قَدْرٍ من النّجاح الاقتصادي.
وهناك ميزة أخرى، ألا وهي الأجور المُتدنّية في البلاد، مع مهاراتِ السّوريّين المعروفة، وهو ما قد يساعد على إحياء الصّناعة السّورية، ولكن إذا تحقّق الأمن والحلّ الجزئي لمشكلات البنية الأساسيّة.
بالنّسبة لحقولِ النّفط والغاز السّوريّة فحالتها مُزريَة، حيث انخفض إنتاج النّفط لنحو 80 ألف برميل يوميًّا من 400 ألف برميل عام 2010، ويمكن زيادتها إذا تَوافرَت استثمارات خارجيّة ضخمة.
وكلّ ما سبق مرتبطٌ برفعِ العُقوبات الغربيّة وتحقيق الاستقرار وتشكيل حكومة مقبولة محليًّا وعربيًّا ودوليًّا، وهذا يجعل مستقبل سوريا الاقتصادي مرتبطًا بشكلٍ كبير بمستقبلِها السّياسي الغامِض.
فإذا حدث احترابٌ داخلي، وهو سيناريو لا يمكن استبعاده حتى بين الفصائل التي دخلت دمشق، فقد يقود لأزمةٍ إنسانيّة أسوَأ من السّابقة، وموجةِ هِجرة جديدة. إذ قد ينفضّ التّحالف الهشّ الذي فَرضتْه "هيئة تحرير الشّام" قسْرًا على باقي فصائل إدلب، والذي يُسمّى "غرفة العمليّات المشتركة"، وقد ينشب نزاعٌ بين الغرفة وفصائل درعا التي لها توجّه مُختلف وعلاقات ببعض الدّول العربيّة، وكذلك فصيل "جيش سوريا الحرّة" التّابع لواشنطن.
أمّا ما يسمّى بـ"جيش سوريا الوطني" في الشّمال فهو يتلقّى أوامره من تركيا، كما يظهر في القتال الذي يخوضه ضد قوات "قسد" (قوّات سوريا الدّيموقراطيّة) التي يقودها الأكراد، وهو ما تجنّبته "هيئة تحرير الشّام" حتى الآن.
قد تتراجع شعبيّة الشّرع أمام المشكلات الاقتصاديّة وما سيترتّب عليها من احتجاجاتٍ مطلبيّة وسياسيّة
الصّراع الأكثر قابليةً للانفجار، هو الصّراع بين "قسد" و"هيئة تحرير الشّام" في ظلّ تقديم الأخيرة لنفسِها كحاكمٍ رسمي للبلاد، واحتمال استغلالِها لاستياء الأغلبيّة العربيّة في الشّمال الشّرقي من حُكم "قسد"، والأهمّ أنّ الهيئة ستَتطلَّع لمناطق النّفط والغاز والحبوب التي بأيدي الأكراد لأنّها تمثّل المَصدر الرَّئيسي للدَّخل بالبلاد، وقد تُسارع تركيا إلى توسيع تدخّلِها ضدّ الأكراد، وقد يقابِل ذلك تدخلٌ أميركي لدعم "قسد".
السّيناريو الثّاني، هو تعزيز "هيئة تحرير الشّام" لقبضتِها على السّلطة، كما بدأت بالفِعل، مع مواصلةِ خطابِها الغائِم المُحمَّل بوعودٍ مُبْهَمَةٍ للدّاخل والخارج، ويبدو أنّها تُراهن على أن يؤدّيَ ذلك لرَفْع العقوبات عن سوريا وإزالتِها من قوائِم الإرهاب.
وبالفعل يقدّم أحمد الشّرع نفسَه كحاكمٍ سيبقى لسنواتٍ طويلة، وليس حاكمًا انتقاليًّا، لدرجةٍ أنّه ألغى التّجنيد الإجباري، ويُهمّش مسألة نقل السّلطة ويركّز على خطاب البِناء والتّنمية، حتى أنه لوّح بزيادة الرّواتب بنسبة 400% لنَيْل تأييد الموظّفين المُثقلين بالتّضخّم، ولكنّ هذا يهدّدُ بموجةٍ تَضخُّميّة جديدة في ظلّ نقص الموارد.
وبينما يتسابقُ الدّيبلوماسيّون الغربيّون على الالتقاء بالشّرع، فقد ربط جميعُهم إنهاء العزلة بتشكيل حكومةٍ تضمّ جميع المُكوّنات وإجراء انتخابات، بينما تشكو معارضة الخارج من تجاهُل الهيئة لها، وسيواصل الغرب إغراء الشّرع برفع العقوبات، وهو بدوره يلوّح بتنازلاتٍ شكليّة، ولكنّ احتمال تنظيمِه لانتقالٍ سلميّ ومُحايِد للحُكم محلّ شكوك، لأنّه قد يخسر سُلطته المُطْلقة، نظرًا لغياب ظهيرٍ سياسي له في البلاد التي كان يعتبِر حتّى المعارضون فيها "هيئة تحرير الشّام" جماعةً إرهابيّةً مُتطرّفة، وقد تتراجع الشّعبيّة المؤقّتة الّتي اكتسبها الشّرع أمام المُشكلات الاقتصاديّة وما سيترتّب عليها من احتجاجاتٍ مطلبيّة وسياسيّة، قد يقابِلها بممارساتٍ تعسُّفية لقمعِها مثلما فعَل بإدلب.
وبالتّالي هذا السّيناريو قد يُفضي لنصفِ تطبيعٍ غربي مع الهيئة مثلما حدث مع "حركة طالبان" بأفغانستان، حيث يتم الاكتفاء باتصالاتٍ أغلبُها استخباراتي ورفع بعض العقوبات وتقديم مساعداتٍ إنسانيّة من دون دمجٍ بالاقتصاد العالمي، وهو ما سيحْرُم سوريا من تحويلات المُهاجرين، ومساعداتِ الإعمار الضّروريّة، وسيتحوّل الحُكم لحالةٍ من إدارة الفَقر المَحكومة بقبضةٍ أمنيّة مثل أفغانستان.
السّيناريو الأفضل للبلاد دعم النُّخب السّورية ومعها الدّول العربيّة لشخصيّةٍ سُنّيّة قويّة قادرة على اتّخاذ قراراتٍ حاسمة
السّيناريو الثّالث وهو المُفضّل للغرب، هو إقامةُ حكمٍ انتقاليّ برعايةٍ أُمميّة، ولكنّه ليس مثاليًّا كما يبدو، إذ يميلُ هذا السّيناريو عادةً لتشكيل سلطةٍ مُفَتَّتَة تُعظّم انقساماتِ المُجتمع، لأنّ المُشاركين المحليّين بها يهتمّون بإرضاء الرّعاة الأجَانب والمكوّنات المحليّة التي يمثّلونَها من دون حلولٍ جذريّة للمُشكلات السّياسيّة والاقتصاديّة، ومن دون مُقاربةٍ وطنيّةٍ شاملة، وقد يتّجهون لتَقسيم الغَنائم الاقتصاديّة والسّياسيّة المحدودة مِثلما يحدث في لبنان وليبيا مع إطالةٍ للعمليّة الانتقاليّة للبقاء بالسّلطة المُؤقتة، كما يؤدّي هذا النّموذج عادةً لإبقاء الفَصائل المسلّحة بعيدًا عن سيطرة الدّولة، وهذا يفتح الباب للفيدراليّة وللاضطرابات المُضرّة بالاقتصاد.
السّيناريو الأفضل للبلاد، هو دعم النُّخب السّورية ومعها الدّول العربيّة لشخصيّةٍ سُنّيّة قويّة قد تكون من المُعارَضة أو من قياداتٍ سابقة بالنّظام رَفضت جرائمَه أو عسكريًّا خَرَجَ من المُؤسّسة العسكريّة قبل بدء حملات القمع، وهذا الشّخص والتَيّار الذي يقوده بقدر ما يجب أن يكون مقبولًا من الأقليّات والأغلبيّة السُّنّيّة على السّواء، فمن الضّروري أن يكون قادرًا على اتّخاذ قراراتٍ حاسمة بملفّات مثل الاقتصاد ورفض الفيدرالية وإعادة بناء جيشٍ وطني أساسُه العسكريّون غير المُلطّخة أيديهم بالدّماء وليس الفصائل المسلّحة، كما يظهر من مخطّطات الشّرع.
شخصٌ لديه مرونة "رفيق الحريري"، يستطيع إدماج الفُرَقاء بالنّظام السّياسي، من دون الخضوع لهم وأن يبني شعبيّةً عابرة للانقسامات الدّينيّة تسمح له بقيادة الانتقال السّياسي وتحديث الاقتصاد وجذْب المُساعدات والاستثمارات الخارجيّة والأهمّ مدّخرات السّوريّين في الخارج عبر نظامٍ مصرفيّ فعّال وورشة إعمار، ولكن من دون مُحَاصَصَةٍ طائفيّة أو الوُقوع بمصيدة الديون كما حدث في لبنان.
(خاص "عروبة 22")