منذ تفجّر الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل 2023، برزت قضية الفشل في إقناع الطرفين بضرورة التوصل إلى هدنة يترتب عليها إيقاف محدود أو مؤقت لوقف إطلاق النار، ما جعل اليوم الحديث يتمحور حول وجوب الوصول إلى وقف طويل الأمد لإطلاق النار باعتباره بات أمراً مُلحًا وضروريًا وأخلاقياً، غير أنّ شكوك كبيرة تحيط بإمكانية تحقيق هذا الأمر أسوةً بحصيلة تجارب الهدن السابقة التي تم الإعلان عنها وتعرضت للتقويض من الطرفين، أو جرى توظيفها لخوض مواجهات أعنف من التي سبقت سريان الهدنة، بشكل بدا معه الطرفان وكأنّهما يريدان تعويض ما فاتهما من مواجهات خلال سريانها.
ولعلّ التجارب السابقة المرتبطة بالهدن منذ تفجّر الصراع أصبحت تُعدّ بحد ذاتها ممرًا ضروريًا في طريق الوصول إلى وقف دائم أو طويل لوقف إطلاق النار بين الطرفين، من خلال تحديد مكامن الضعف والقوة لكلّ منها، وما يجب التركيز عليه لتحقيق فعالية أقوى للإتفاق طويل الأمد أو الدائم لوقف النار.
كل الهدن السابقة لمفاوضات جدة افتقدت إلى الرقابة، وهو ما جعلها تصل إلى النتائج والنهايات ذاتها
وهنا، يمكن تقسيم الهدن التي تم اعتمادها طيلة أكثر من مائة يوم من حرب السودان إلى عدة أنواع، فيمكن تصنيفها من حيث الرقابة بأنها خاضعة أو غير خاضعة لمراقبة ورصد الأنشطة المحظورة وعلى رأسها تحليق الطائرات والقصف المدفعي وإعادة تمركز وإنتشار وتحريك القوات... إلخ، أما على مستوى الجهات المعنية بالهدن فيمكن تصنيفها إلى محلية وأخرى خارجية، وعلى مستوى مداها الزمني يمكن أن تنقسم إلى ساعات محدودة أو لمدة يوم أو لعدة أيام أو أسبوع.
فكل الهدن السابقة لمفاوضات جدة افتقدت إلى الرقابة، وهو ما جعلها تصل إلى النتائج والنهايات ذاتها، ونتج عن تكرار الخروقات وعدم الإلتزام بها إضعاف ثقة المدنيين في جدواها وإعتبارها مجرد "خدعة" إلى درجة أصبح معها الإعلان عن أي هدنة "نذير شؤوم" بأنّ القادم بعدها سيكون أشد وقعاً مما سبقها، بما يشمل اشتداد وتيرة المعارك وتمدّدها إلى مواقع جديدة.
أقرّ الطرفان عبر منبر مفاوضات جدّة 4 هدن، ومن المهم اليوم البحث عن إجابة حول الإجراءات المطلوبة للوصول إلى وقف طويل أو دائم لإطلاق النار، بناءً على النتائج المستخلصة من تجارب تلك الهدن المختلفة بغرض ضمان إستدامة وقف النار، بخاصة مع إستئناف المفاوضات. وتتمحور أبرز القضايا الواجب التركيز عليها حول أهمية تطوير تجربة الرقابة بحيث لا تقتصر فقط على الخرطوم وإنما تشمل كل أنحاء البلاد، بالتوازي مع وجود فرق رقابة ميدانية قادرة على التحرّك قبل أو فور وقوع الخرق، مع إيجاد عقوبات مباشرة وفعلية تجاه المشاركين في الخروقات، سواء كانوا قادةً أو ضباطًا ميدانيين أو جنودًا.
لاعتماد الحدود الإدارية في الفصل بين الطرفين على أساس "محليات الخرطوم الـ7"
ومن أبرز نقاط الضعف الواجب معالجتها قبل التوصل لأي إتفاق طويل أو نهائي لوقف إطلاق النار هي تلك المرتبطة بتحديد مناطق إنتشار ووجود كل طرف من الأطراف، إذ مع استمرار تواجد الطرفين في "مناطق التماس" فإنّ فرضية الإحتكاك والصدام المباشر بينهما ستظل واردة الحدوث، وتجاوز هذا الأمر سيتطلّب اللجوء إلى خيارات وتصوّرات للفصل بين قوات الطرفين قد يكون من بينها اللجوء إلى "الفاصل الطبيعي"، كحصر وجود طرف في مدينة وآخر في مدينة أخرى في العاصمة التي يفصل النهر بين مدنها الثلاثة، مع إمكانية جعل المنطقة الثالثة معزولة وخالية من كليهما، أو اللجوء إلى الحدود الإدارية للفصل بين الطرفين، من خلال تقسيم وجودهما على أساس محليات الخرطوم الـ7، حيث تتكوّن أمدرمان من 3 محليات (أمدرمان/كرري/أمبدة) والخرطوم من (الخرطوم/ جبال أولياء) والخرطوم بحري من (بحري/شرق النيل).
أما على المستوي العملي، وفي ظلّ تعذّر سيناريو تكوين قوة مشتركة من الطرفين تتولى مهام حفظ الأمن، فإنّ هذا الأمر قد يفضي إلى ترجيح فرضية سيناريو تسليم مهام الحفاظ على الأمن في العاصمة ومرافقها الحيوية والإستراتيجية إلى قوات أفريقية مشتركة، وقد يتطوّر هذا المقترح ويُعدّل ليصار إلى إسناد مهمة حفظ الأمن في المدن إلى الشرطة السودانية، من دون إغفال التحفظات التي قد يثيرها "الدعم السريع" حول مقترح إسناد هذه المهمة إلى الشرطة بإعتبارها منخرطة في الصراع، وهو ما قد يترتب عليه تاليًا عدة سيناريوات محتملة لتجاوز هذا الخلاف، من بينها على سبيل المثال إمكانية إسناد قيادة الشرطة إلى قيادات شرطية محايدة كانت قد أحيلت إلى المعاش.
التجربة أثبتت عدم جدوى رهن نقاشات الطرفين بالوصول إلى حلول دون تقييدها بسقف زمني
تبقى الجزئية الأساس المتصلة بأيّ وقف دائم لإطلاق النار، إعتباره خطوة في طريق إنهاء الحرب بحيث يُعاد الخلاف ومعالجته إلى أصله قبل الخامس عشر من أبريل بوصفه سياسيًا في المقام الأول واستكمال التباحث حول كيفية الإصلاح الأمني وإبعاد عناصر النظام المخلوع من كل القوات النظامية، والإقرار بمبدأ الدمج بالنسبة للدعم السريع وللحركات الموقّعة على إتفاق سلام جوبا ومراحله، بما في ذلك الأسس الواجب إتباعها ليكون دمجًا قابلًا للتطبيق عند إستيعاب مجموعات أخرى غير موقّعة على إتفاق السلام، مرفقًا بأدقّ تفاصيل المراحل ومواقيتها الزمنية بما يُفضي إلى تأسيس قوات نظامية قومية غير حزبية، مهنية وإحترافية، خاضعة للسلطة المدنية الدستورية ولا تمارس أي أنشطة سياسية أو إقتصادية أو تجارية.
فقد أبرزت التجربة التي سبقت إندلاع الحرب أنّ إفتراض مقدرة طرفيها منفردين إلى التوصل لحلول للقضايا الخلافية هو رهان خاسر، ولذلك فإنّ الأمر سيتطلب تحديد آليات ذات طبيعة دستورية يتم الإحتكام إليها في حال عدم توصلهما إلى صيغة تمكّنهما من الإتفاق، تمامًا كما أنّ التجربة أثبتت خطورة وعدم جدوى رهن نقاشات الطرفين بالوصول إلى حلول دون تقييدها بسقف زمني معيّن للفراغ من مناقشة القضايا الخلافية والبتّ بها وإصدار قرارات بشأنها، ما يقود حكمًا إلى وجوب البحث في القضايا العالقة قبل إندلاع الحرب، عسكريًا وسياسيًا ودستوريًا، وألا يقتصر النقاش على العسكريين فقط، وإنما يتسع ليشمل المدنيين من الأحزاب والتحالفات السياسية ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والنقابات باعتبارهم أصحاب مصلحة سيقع على عاتقهم مهام تنفيذ ما يتم الإتفاق عليه... بالإستناد إلى قناعة تامة بوجوب أن يقود مسار إنهاء هذه الحرب إلى إعادة تسليم الحكم للمدنيين.
(خاص "عروبة 22")