يتطلّب الحديثُ عن الاقتصادِ العربي الكلّي، الذي يشمل القِطاعات الإنتاجيّة والخدميّة على حدٍّ سواء، الغَوْصَ في أعماقِ الواقعِ الرّاهن، وتشريحِ العوائِق التي تقفُ حائلًا دون تحقيقِ التّكامل الاقتصادي، واستكشاف الطّموحات التي يمكنُ أن تكونَ مُحَفِّزَةً لنهضةٍ شاملة.
وهكذا، نبدأ من نظرةٍ شاملةٍ تُضيء على الأبعادِ المُختلفةِ لهذا الاقتصاد، مع إبرازِ أهمّية القِطاعاتِ الإنتاجيّة باعتبارها قاعدةً أساسيّةً لتحقيقِ الاستدامةِ والتّنمية، من دون التّقليل من شأن القِطاعات الخَدميّة الّتي تُشكِّلُ رافدًا مهمًّا لدعمِ الاقتصاد.
نسبة التّجارة البَيْنِيَّة الضئيلة تُبرِز حَجْمَ الفَجْوَةِ في التّعاون الاقتصادي على الرّغم من القُرْب الجغرافي والتّشابُه الثّقافي
منذ عقودٍ طويلة، تشكّل المَواردُ الطبيعيّة ركيزةً أساسيّةً للاقتصاداتِ العَربيّة، ولا سيّما في البُلدان التي تمتلكُ احتياطيّاتٍ نفطيّةً وغازيّةً ضخمَة. ومع ذلك، يُظْهِرُ هذا الاعتمادُ الكبيرُ على المواردِ الطبيعيّةِ هشاشةً واضحةً أمام التّقلّباتِ في الأسواق العالميّة، ذلك أنّ تَذبذُباتِ أسعار النّفط تؤثّر في استقرارِ الاقتصادات العربيّة بدرجاتٍ مُتفاوتَة، ما يدفعُ العديدَ من البلدانِ إلى التّفكير في تَنْوِيعِ مصادرِ دخلِها.
في بلدانِ الخليج، حيث تعتمد اقتصاداتُها في شكلٍ كبيرٍ على إيرادات النّفط، جرت محاولاتٌ جادّة لتَنويع الاقتصادِ من خلالِ تعزيزِ القِطاعاتِ غير النّفطية مثل السّياحة، والخدماتِ الماليّة، والطاقة المتجدّدة. ومن جهةٍ أخرى، تواجه البُلدان العربيّة غير النّفطية تحدّياتٍ اقتصاديّة أكثرَ تعقيدًا، تتعلّق بمحدوديّة الموارِد الطّبيعيّة وضُعْفِ البِنية التّحتيّة والاعتماد المُفْرِط على المساعداتِ الخارجيّة.
نسبة الشباب كبيرة في العَالم العَربي وهو ما يمكن اعتبارُه فرصةً ذهبيّةً لتحقيق قفزة نوعيّة في التّنمية
عند النّظر إلى واقع الاقتصاد العربي، نجدُ أنّ التّجارة البَيْنِيَّة بيْن البُلدان العربيّة لا تزال تمثّل نسبةً ضئيلةً مقارنةً بإجمالي التّجارة الخارجيّة لكلِّ بلد. هذه الحقيقةُ تُبرِز حَجْمَ الفَجْوَةِ في التّعاون الاقتصادي بيْن البلدان العربيّة، على الرّغم من القُرْبِ الجغرافي والتّشابُهِ الثّقافي. ويُفسَّرُ هذا الضُّعفُ بعدَّةِ عوامِل، منها غياب الإرادة السّياسيّة الحقيقيّة لتحقيقِ تكامُلٍ اقتصادي، وضعف البِنية التّحتيّة التي تربط بين البُلدان، بالإضافة إلى التّبايُنَات في السّياسات الاقتصاديّة والتّشريعات التّنظيميّة.
هذه التّحدّيات وغيرها تجعل من التّكامل الاقتصادي حلمًا بعيدَ المَنال، على الرّغم من المُحاولات العديدة لإنشاء تَكتُّلاتٍ اقتصاديّة مثل "مجلس التّعاون الخليجي" النّاجح نسبيًّا والاتحاد المَغاربي الأقلّ نجاحًا نسبيًّا أيضًا.
القطاعات الإنتاجيّة هي الحجرُ الأساس في أي نهضةٍ اقتصاديّة
على صعيدٍ آخر، يُشكِّل التّفاوت الكبيرُ في معدّلات النّمو الاقتصادي بين البُلدان العربيّة عائقًا آخر أمام تحقيقِ التّنمية المُتوازنَة. ففي حين تُسجِّل بُلدان الخليج معدّلات نموٍ مرتفعةٍ نسبيًّا بفضلِ فوائضِها الماليّة النّاتجة عن صادرات النّفط، تُعاني بلدانٌ مثل الجمهوريّة اليمنيّة والجمهوريّة العربيّة السّوريّة من تدهورٍ اقتصاديٍ حادّ نتيجة النّزاعات المستمرّة وعدم الاستقرار السّياسي. وفي المقابل، تسعى بُلدان مثل جمهوريّة مصر العربيّة والمملكة المغربيّة والمملكة الأردنيّة الهاشميّة إلى تحقيق توازنٍ بين مُتطلّبات التّنمية الاقتصاديّة وضغوط الدّيون الخارجيّة، مع تركيزٍ على تعزيزِ القطاعات الإنتاجيّة مثل الزّراعة والصّناعة.
كذلك، يمثّل الشباب في العَالم العَربي نسبةً كبيرةً من السّكان، وهو ما يمكن اعتبارُه فرصةً ذهبيّةً لتحقيق قفزةٍ نوعيّةٍ في التّنمية الاقتصاديّة إذا أُحسِن استغلال هذه الطّاقات. ومع ذلك، تُشكّل مُعدّلات البَطالة المُرتفعة بين الشّباب تحدّيًا خطيرًا لا يُمكن التّغاضي عنه. وتُشير تقاريرَ دوليّة إلى أنّ أكثرَ من ثلث الشّباب العربي يُعاني من البَطالة، وهو ما يفاقِم من الإحباطِ الاجتماعي ويزيدُ من حدّة التّحدّيات الاقتصاديّة. ولعلّ تَمكين الشّباب من خلال تَوفير فُرصِ عملٍ لائقةٍ وتعزيزِ المهاراتِ التّكنولوجيّة والمِهنيّة يمكن أن يكون بدايةً لحلّ هذه الأزمة.
الصّناعة تشكّل القطاع الذي يمكنُ أن يكونَ المحرّكَ الرّئيسي للنّمو الاقتصادي
ولجهة الدّور الذي يُمكن أن تُؤدّيَه المرأةُ في الاقتصاد العربي، تُظهِر الأرقامُ صورةً مُقلقةً. فعلى الرّغم من التّحسُّن النِّسبي في مُعدّلات تعليم النّساء في العَديد من البُلدان العربيّة، لا تزال مُشاركتهنَّ في سوق العمل ضعيفةً للغاية. من نافل القول إنّ تمكين المرأة اقتصاديًا ليس مجرّد قضيّة حقوقيّة، بل هو أيضًا ضرورة اقتصاديّة لتعزيزِ الإنتاجيّة وزيادةِ النّاتج المحلّي الإجمالي. مثلًا، تُشير دراساتٌ كثيرة إلى أنّ سدّ الفَجوة بين الجِنسيْن في سوق العملِ يُمكن أن يُضيفَ ما يقرب من 50 في المئة إلى النّاتج المَحلّي الإجمالي الخاصّ بالعديد من البُلدان العربيّة.
على صعيدِ الاقتصادِ الكُلّي، إذا نظرنا إلى القطاعاتِ الإنتاجيّة، وهي الحجرُ الأساس في رأيِنا في أي نهضةٍ اقتصاديّة، تمثّل الزّراعة إحدى أهمّ الرّكائز التي يمكن أن تساهِم في تحقيق الأمْن الغذائي وتعزيزِ الاستقلال الاقتصادي. ومع ذلك، تُواجِه الزّراعة العربيّة تحدّيات جسيمة، منها شحّ المَوارد المائيّة، وضعف استخدام التّكنولوجيّات الحديثة، واعتماد العديد من البُلدان على استيراد الحُبوب والموادّ الغذائيّة الأساسيّة. هذه التّحدّيات تتطلّب استثماراتٍ ضخمةً في البحثِ العِلمي الزّراعي، وتبنّي تِكنولوجيّات الرَّيْ الحديثة، وتعزيز التّعاون الإقليمي لتطويرِ منظومةٍ زراعيّةٍ مُستدامة.
يمثّل التّحوّل نحو الطّاقة المُتجدّدة طريقةً لا تُقدَّر بثمنٍ للبلدان العربيّة
أمّا الصّناعة فتشكّل القطاع الذي يمكنُ أن يكونَ المحرّكَ الرّئيسي للنّمو الاقتصادي إذا طُوِّر في شكلٍ صحيح. تمتلك البلدان العربيّة إمكاناتٍ كبيرةٍ لتطويرِ الصّناعات التّحويليّة، ولا سيّما في مجالات البتروكيماويّات، والصّناعات الغذائيّة، والنّسيج. ومع ذلك، يُفوِّت غيابُ التّكامل الصّناعي بين البلدان العربيّة المنطقةَ فُرصةً ثمينةً لبناء سلاسِل قيمةٍ إقليميّةٍ قادرةٍ على المُنافسة عالميًّا. ويتطلّبُ تحقيقُ ذلك تحسينَ بيئةِ الأعمال، وتوفيرَ حوافزَ استثماريّة جَاذِبَة، وتعزيز التّعاون بين القطاعيْن العامّ والخاصّ.
على صعيد الطّاقة، يمثّل التّحوّل نحو الطّاقة المُتجدّدة طريقةً لا تُقدَّر بثمنٍ للبلدان العربيّة لتقليلِ اعتمادِها على الوقودِ الأحفوري وتنويعِ مصادرِ دخلِها. وتحقّق بلدانٌ مثل المملكة العربيّة السّعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة المغربيّة تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال من خلال الاستثمار في مشاريعَ ضخمةٍ للطّاقة الشّمسيّة وطاقة الرّياح. ويمكن أن تكونَ هذه التّجارب مصدر إلهامٍ لبقيّة البلدان العربيّة لتطوير استراتيجيّات طاقةٍ مُستدامة تساهِم في تعزيز النّمو الاقتصادي وحمايةِ البيئة.
(خاص "عروبة 22")