في السّياق العربي الإقليمي، تبيَّن أنّ تجاوبَ وردَّ فعلِ المُواطنِ العربي إزّاء أخبارِ الكائناتِ الفضائيَّة، كان متوقّعًا ومنطقيًّا، حيث لم يُبْدِ الانسانُ العَربي من مُحيط الوطنِ إلى خليجِه أي تفاعل يُذكر مع إمكانيَّة احتلالِنا من طَرَفِ سُلالةٍ فضائيَّة تعيش في مجرّة بَعيدة.
فلماذا طَبَعَ البرودُ واللّامبالاة التّجاوبَ العالمي مع صُحون نيو جيرسي الطّائرة؟ ولماذا فقدْنا الحماسةَ والشّغف بكلّ ما يتعلّق بالفضاء والمجرّات واحتماليّة وجودِ حياةٍ عاقلةٍ خارجَ كوْكب الأرض؟ على الرّغم من أنّ معظمَنا قد نَشأ وهو مفتونٌ بأفْلام حربِ النّجوم والمَرْكَبَات الفَضائيَّة ونظريّات الفيزياء الكمّيَّة الّتي تتحدَّث عن أكوانٍ مُوازيةٍ وعوالمَ مُدهشَة؟
قبْل أن نجيبَ على هذا السّؤال المُحَيِّر، دعونا نُسافرُ عبْر الزَّمن في جولةٍ سريعةٍ حوْل تاريخِ تيمَة الفضاءِ والصّحون الطّائرة في السّينما العالميّة. ثم نعود لقواعدِنا الأرضيّة سالمين لنزدادَ يقينًا بأنّ المواطنَ العَربي المُمزَّق بالحروبِ والتّهجيرِ والتّجويعِ والتّرهيبِ لن يكترثَ إذا سقط على رأسِه صحنٌ طائر!.
البدايات الكلاسيكيّة المُبكّرة لتِيمَة الفضاء سينمائيًّا
ظهر نوعُ أفلام الأجْسام الطّائرة المَجهولَة المَصدر في منتصفِ القرنِ العشرين، تزامنًا مع ارتفاع عددِ مُشاهدات هذه الأجسام المُبَلَّغ عنْها وهَوَس عصر الحرب الباردة باستكشافِ الفضاء والتّهديدات الوُجوديّة. حدَّدت الأفلام المُبكرة مثل "اليوم الّذي توقّفت فيه الأرض" [The Day the Earth Stood Still] (1951) و"الأرض في مواجهة الصّحون الطائرة" [Earth vs. the Flying Saucers] (1956) سِمةَ هذا النّوع.
غالبًا ما صَوَّرَت هذه الأفلام الكائناتِ الفضائيّة إمّا كشخصيّات مَسيحيّة أو تهديداتٍ وُجوديّة، ممّا يعكس قلقَ المجتمعِ بشأنِ الفناءِ النّووي والمَجهول. أصبح الطّبق الطّائر، وهو عنصرٌ أساسيٌ في صور الأجْسامِ الطّائرة المجهولة، اختصارًا بصريًّا لوجودِ حياةٍ خارج كوكبِ الأرض.
صعود الأفلام التّجارية الضّخمة بين الدّعائيّة والتّسويق
كانت سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين بمثابة نقطةِ تحوّلٍ في نوع أفلام الأجْسام الطّائرة المَجهولة، حيث رَفعهَا مُخرجون مثل ستيفن سبيلبرغ إلى مرتبة الأفلام الضّخمة.
قدّم فيلم "لقاءات قريبة من النّوع الثّالث" [Close Encounters of the Third Kind] (1977) للمُخرج سبيلبرغ تَصويرًا أكثر تَفاؤلًا للقاءات الكائِنات الفَضائيّة، مع التّركيز على الدّهشة والتّواصل بدلًا من الصّراع. والسّياق الزّمني عينه تَقريبًا، قدّم فيلم [E.T. the Extra-Terrestrial] (1982) الكائناتِ الفضائيّة ككائناتٍ مُتعاطفة، ممّا أضاف عُمْقًا عاطفيًّا إلى هذا النّوع. حوّلت هذه الأفلام السّرد من الخَوفِ إلى الفُضولِ، ودَعت الجمهورَ إلى رؤيةِ الحياةِ خارج كوكب الأرضِ كمصدرٍ للإلهامِ بدلًا من الخوف.
تقاطَعَ نوعُ أفلامِ الأجْسام الطّائرة المَجهولة أيضًا مع الرُّعب، مؤكّدًا على جنونِ العَظمة والخَوف من المَجهولِ، حيث تُصَوِّرُ أفلامٌ مثل فيلم [Alien] (1979)، وفيلم [The Thing] (1982)، الكائناتِ الفَضائيَّة ككِياناتٍ معاديّة تهدّد بقاءَ البشريّة.
غالبًا ما تدور أحداث هذه الأفلام في أماكنَ معزولَة، مما يزيدُ من الشّعور بالرّعب. تمتدّ الجوانبُ الأكثر قَتَامَةً في نوع الصّحون الطَّائرة أيضًا إلى أفلام الإثارة المُؤامراتيّة، مثل سلسلة [The X-Files] و[Fire in the Sky] (1993)، والّتي تستكشفُ عمليّات التّستّر الحكوميّة والثّمن النّفسي الباهِظ لتجاربِ الاختطاف.
عوالم نولان ومفهوم الزّمكان فلسفيًّا
في العقودِ الأخيرة، استمرّت تِيمَة الفضاء في التّطور، واحتضنَت سرديّات أكثر دقّةً وتَعقيدًا. تستكشف أفلامٌ مثل فيلم [Arrival] (2016) تعقيداتِ وجودِ حياةٍ خارج كوكب الأرضِ والتّداعيّات الفلسفيّة للاتّصال الأوّل، بينما يستخدم فيلم [District 9] (2009) الوجودَ الفضائي كاستعارةٍ لقضايا اجتماعيّة مثل الفَصْل العنصري وكراهيَة الأجانب. تُسلِّطُ هذه الأفلام الضّوءَ على كيفيّة عملِ هذا النّوع كعدسةٍ لفحصِ المَخاوف الإنسانيّة المُعاصرة، من العوْلمة إلى المَخاطر الوجوديّة.
لا يُمكننا الحديث عن الفضاءِ من دون التّطرّق لأسطورة كريستوفر نولان الخالدَة "بين النجوم" [Interstellar] (2014)، والتي ناقش فيها مَفهوم الزَّمن من وجهةِ نظر الفيزياء الكمّيّة. وطرحَ تساؤلات حول ماهيّة الوُجود ومستقبل البشريّة في أبعادٍ زَمكانيّة مُغايرَة.
يَتردّدُ صدَى تيمة الفضاء بعمقٍ لدى الجَماهير لأنّه يتطرَّق إلى أسئلةٍ عالميّةٍ: هل نحن وحدَنا في الكَوْن؟ ماذا سيحدُث إذا اتّصلنا بكائناتٍ أخرى؟ كما يَعكسُ مخاوفَ وتطلّعاتِ البشريّة، من رُعب الغزْو إلى الأملِ في فهمِ حقيقةِ الفضاء الخارجي.
أصبحت الصّور الرّمزيّة، مثل الأطباق الطّائرة وأشِعّة الاختطاف الفَضائيّة، راسخةً في الثّقافة الشّعبيّة، حيث تظهرُ في كل شيء من أفلام المُحاكاة السّاخرة مثل [Mars Attacks] (1996) إلى الأفلامِ الوثائقيّة الجادّة.
يجوز لنا القول إنّ أفلام الفضاء ما زالت تأسر المُشاهدين من خلال مزْجِ الخَيال العِلمي والغُموض والعاطفة الإنسانيّة، وسواء كانت تُصوِّر الكائناتِ الفضائيّة كأصدقاء أو أعداء أو ألغاز، فإنّ هذه الأفلام تتحدّى الجمهور لمواجهةِ أعمقِ مخاوفهِم وآمالهِم بشأن المَجهول. ومع تقدم التّكنولوجيا وتوسُّع فهمِنا للكَوْن، فإنّ نوع أفلام الأجْسام الطّائرة المَجهولة سيظلُّ بلا شكّ جزءًا حيويًّا وديناميكيًّا من السّرد السّينمائي.
فلماذا أصبحنا نتخلّص من الدّهشة والافتتانِ بالنّجوم والمجرّات على أبوابِ القاعات السّينمائية؟ ولماذا قابل المواطِن السّوري العائِد إلى وطنٍ بلا ملامِح خبرَ "صحونِ نيو جيرسي" بلا مُبالاة؟ ولماذا لم يهْتم المواطنُ الفلسطيني في مُخيّمات الشّتات بتهديداتِ الغزوِ الفَضائي؟ ولماذا لم يهتم المُواطن المصري الغارقُ برفقة الجُنَيْه في مُستنقعات التّعويم باحتماليّة احتلال الأرضِ من طرفِ جنسٍ فضائي مُتطوّر؟ ولماذا لم يُبْدِ المُواطن اللبناني الذي يُقْصَفُ سقفُ منزلهِ ليل نهار أي تجاوُبٍ مع محاولات الاتّصال الفَضائيّة؟!.
(خاص "عروبة 22")