المَرَضُ العُضَالُ الذي تُعاني منه أمَّةُ العربِ كان ولا يزالُ يَتجسَّدُ في استبدادِ الأنظمةِ الحاكمةِ وديكتَاتُوريَّتِها المُفرِطة الّتي لا تتطوَّر، ولا تتغيَّر، ولا تقبلُ التَّحديثَ، وعصيَّة على الرُّشدِ، وبرنامجُها الوحيدُ يتمثَّل في نُقطةٍ واحدةٍ هي استمرارُها في الحُكْمِ، وإبقاء الحال على ما هو عليه، والحيْلولة دون أي تغيير، والوقوف في وجهِ أيْ تقدُّم.
منذ 123 سنة ـ بالتَّحديدِ سنة 1902 ـ كتبَ العلَّامة الشَّيخ عبد الرحمن الكواكبي، ابن حلب، كتابَه الذي لا يزال صيْحةً في وادي العرب لم تذهب بها الرِّيح، ولكنَّها لم تَقتلع أوتادَ التَّسلُّط. بَدَا الكواكبي مُفْرِطًا في التَّفاؤلِ، لم يتصوَّر أن تبقى القضيَّةُ التي ناضلَت وكافحَت في سبيلِها أجيالٌ متعاقبة، جيل من بعد جيل، هي القَضيَّة ذاتها التي ما تزال الأمَّةُ تُكافِح من أجلِها حتى يومِنا هذا، كأنَّنا مربوطون في السَّاقيَة نفسها، ندورُ في حَلْقَاتٍ مفْرَغةٍ حَلزونيَّة، يُفضي أوَّلُها إلى آخرِها، من دون أن نتقدَّم خطوةً واحدةً إلى الأمام، ندور في الفلك نفسه، ومحكومون بالأفُقِ المُغلقِ نفسه.
ثالوث الاستعباد والاستعمار والدِّيكتاتوريَّة يؤخّر نهضة الأمَّة ويحول دون تقدُّمِها ويؤجِّل انعتاقَها من التَّخلّف
خَصَّصَ الكواكبي الفصلَ الأخيرَ من كتابِه الشَّهير "طبائعُ الاستبداد ومصارع الاستِعباد" للحديثِ عن طرائقِ التَّخلُّصِ من الاستبدادِ وتفكيكِه، وهي وصفةٌ مميَّزةٌ لمقاومةِ هذا الدَّاء الذي يعتبره أصلًا لكلِّ فساد، ويُؤَثِّر سلبيًّا في كلِّ جوانبِ الحياة.
"روشتة" الكَواكبي هي وَصْفَةٌ مجرَّبَةٌ للتخلّصِ من هذا المَرَضِ المُقيم، وكاتِبُها واحدٌ من أوائلِ المُتخصِّصين في الأمراضِ التي استوطنَت أقطار العرب وبُلدان المُسلمِين، وتَسبَّبَت في أن يبقى المُسلمون والعرب قُرونًا عديدة تحت نير الاستعبادِ والاستعمارِ والدِّيكتاتوريَّة، هذا الثَّالوث الذي تحالف على الأمَّةِ طَوال تاريخِها إلى اليوم يُنهِك قواها، ويؤخِّر نَهضتَها، ويحول دون تقدُّمِها، وتطوُّرِها، ويؤجِّل انعتاقَها من التَّخلّفِ والتًّردِّي.
أنهى الكواكبي كتابَه "الطّبائع" بالحديثِ عمّا سمَّاه "مبحث السَّعي في رفع الاستبداد"، وهو الفصلُ الذي يُقدِّم فيه "روشتة الخلاص من الاستبداد"، في ثلاث قواعد رئيسيَّة:
القاعدة الأولى، يؤكِّد فيها أنَّ الأمَّةَ الَتي لا يشعرُ كلُّها أو أكثرُها بآلام الاستبدادِ لا تستحقُّ الحُريَّةَ، وهو يعلِّقُ على الأمَّةِ مسؤوليَّةَ التّحرُّر من الاستبداد، ويوضح أهمِّيَة العملِ على أن يتنامى الوعيُ العامّ بخطرِ هذا الدَّاء على الحاضرِ والمستقبلِ، وهو يرى أنَّ "الحُرِّيَّة الَتي تنفعُ الأمَّةَ هي التي تحصل عليها بعد الاستعدادِ لقبولِها، وأمَّا التي تَحصلُ في إثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيدُ شيئًا، لأنَّ الثَّورة ـ غالبًا ـ تكتفي بقَطْعِ شجرة الاستبداد، ولا تقتلعُ جُذُورَهَا، فلا تلبثُ أن تَنبتَ وتنموَ وتعودَ أقوى ممَّا كانت أوَّلًا".
كأنَّه يُحدِّثنَا عن خبرتِنا القَريبة التي جرَّبنا خلالَها التَّغييرَ في الأشخاصِ، حيث بقيَ جوهرُ النِّظام، وبقيَت السِّياسات نفسها، ولهذا سوف يؤكِّد في النُّقطةِ الثَّالثة على ضَرورةِ صِناعةِ البديلِ القادرِ على تَغييرِ طبيعةِ النِّظام، والبَديل المقصود ليس أشخاصًا، ولا بدَّ له أن يكونَ برنامجًا شاملًا، يبدأ بقضيَّة استقلالِ القرار الوَطني، ولا ينتهي إلَّا بالتوافقِ الوطني العامّ على الكيْفيَّةِ التي تُحقِّقُ مطالبَ المُواطنين في العيشِ والحُرِّيَّةِ والعدالةِ الاجتماعيَّةِ والكرامةِ الإنسانيَّة.
الشعوب يجب أن تتحرَّرَ من الخَوْف وهذا لا يتأتَّى إلَّا بالتَّعليم وتعزيز الوعيِ ونشر التَّفكير النَّقدي
القاعدة الثَّانية في "روشتة الكواكبي"، تقوم على أنَّ الاستبداد لا يُقاوَمُ بالشِّدَّة، إنَّما يُقاوَمُ بالحِكمةِ والتَّدريجِ، وهو يرى أنَّ الوَسيلةَ الوَحيدةَ الفعّالةَ لقطعِ دابرِ الاستبداد هي تَرَقِّي الأمَّةِ في الإدراكِ والإحساسِ، وكان يُؤمنُ إيمانًا راسِخًا بأنَّ الشعوبَ يجب أن تتحرَّرَ من الخَوْفِ، وتعملَ بشكلٍ جماعيٍ لمواجهةِ الظُّلم، وهذا لا يتأتَّى إلَّا بالتَّعليمِ وتعزيزِ الوعيِ ونشرِ التَّفكيرِ النَّقدي.
اللَّافت للنَّظرِ والتَّدبُّرِ أنَّ الكواكبي راحَ يؤكِّدُ في أكثر من موضعٍ في كتابهِ على أنَّ الاستبدادَ لا ينبغي أنْ يُقاوَمَ بالعنفِ، ويُحذّرُ من أن ينقلبَ الأمرُ إلى فتنةٍ تحصدُ النَّاس حصدًا، بعد أن تُخْمَدَ الثَّورة ويخرج النَّاس من المُعادلةِ، وينتهي بها المطاف إلى التُّوهَةِ الكبرى، وتعودُ الأمورُ إلى ما كانت عليه، وإن تغيَّرَت الوجوه، لنجدَ أنفسَنا من جديد أمام المهمَّة عينها، ولكن للأسفِ هذه المرَّة في غَيْبَةِ النَّاس، سواء كانت غيْبةَ تَغييبٍ، أم غيبةَ إِحباطٍ.
يقول "الكواكبي" بلِسانٍ قديمٍ ما نقولُه بلِسانِ الوَقت: "إذا أردتُّم التَّغييرَ الحقيقي فانتزِعوه خطوةً وراء أخرى وعبْر برنامج وخطط واضحةِ المعالمِ ومعلومةٍ للنَّاس".
القاعدةُ الثَّالثة التي تتبنَّاها "روشتة الكواكبي"، تَنْبَنِي على أنَّ مقاومةَ الاستبداد يجب أن تبدأ بِتَهْيِئَةِ ما يُسْتَبْدَلُ به الاستِبداد، ويشيرُ إلى أهمِّيَةِ أن تكونَ خطَّةَ مقاومةِ الاستبدادِ واضحةً حتَّى تَضْمَنَ الالتفَاف حولَها، لأنَّها "إذا كانت مجهولةً بالكُلِّيَّة عند قسمٍ من النَّاسِ أو مُخالِفةً لرَأيِهم، فهؤلاء ينضمّون إلى المستَبِد، ولذلك يجبُ تعيينِ الغايةِ بصراحةٍ وإخلاصٍ وإشهارِها بيْن الكافَّة، والسَّعيِ في إقناعِهم واستحصالِ رضائِهم بها ما أمكنَ ذلك، بل الأَوْلَى حَمْل العَوَام على النِّداء بِها، وطلبِها من عندِ أنفسِهم".
التَّغييرُ بالوعي هو الذي سيقتلع جذور شجرة الاستبداد
درسُ التَّاريخِ خلال المائة سنة الماضِيَة يفيدُ بأن التَّغييرَ بالنِّقاطِ يبقى ويستمرّ ويتصاعَد، معاركُ صغيرةٌ يفْضِي الانتصارُ في أي معركةٍ منها إلى الدُّخول في التي تَليها، معاركُ يحضُر فيها الشَّعب، ولا يغيب عنها، معاركُ تَهُمُّه ويهتمُّ بِها، معاركُ تدافعُ عن حقوقِه ومصالحِه ولقْمةِ عيشِه، ولا تفرضُ النُّخبة "أجندةَ" قضاياهَا على "أجندةِ" همومِ النَّاسِ ومطالبهِم، بغيْر ذلكَ يبقَى الاستبدادُ جاثِمًا فوقَ صدورِ الأمَّةِ، وتبقى أبوابُ التَّغييرِ الحَقيقي مسدودةً، والأملُ في فتحِها يظلُّ بعيدًا.
التَّغييرُ بالوعيِ هو الحلّ، وهو الذي لن يكتفي بقطعِ شَجَرَةِ الاستبداد، بل سيقتلعُ جُذُورَها.
(خاص "عروبة 22")