بيْنما انْطوَت خَريطةُ المُعارضةِ السُّوريةِ على عددٍ يُعتدُّ بهِ من الفَصائِل منها المَدني ومنها المُسلَّح، فإنّ الفَصائلَ المُسلَّحة هي التي انفردَت بالاستيلاءِ على السُّلطة في دمشق في عمليَّةِ شبهِ خاطفةٍ بدا واضحًا أنَّ ترتيبًا إقليميًّا ودوليًّا مُحْكَمًا قد جرى لها. والأكثر أنَّ هذه الفصائِل انْضوَت تحت قيادةِ "هيئة تحرير الشَّام" المُصنَّفة دوليًّا ضمن لائحة "الإرهاب"، بل إنَّ الولايات المتحدة كانت قد فرضَت مكافأةً قيمتُها 10 ملايين دولار للقبْضِ على قائدِها.
ومن هنا لم يكن غَريبًا أنْ تثورَ أسئلَةٌ كثيرَة تعكسُ قلقًا شديدًا على مُستقبلِ سوريا، غيْر أنَّه لوحظَ أنَّ الخِطابَ السِّياسي للقيادةِ الجديدة في دِمشق جاء خِطابًا عَاقلًا مُتوازنًا يتحدَّث عن سوريا جديدة للجَميع يسودُها مناخٌ من الحرِّيةِ والمُساواةِ، وهو ما أثار إشكاليَّةً حول مُستقبل سوريا، وهل يكونُ أسيرًا لإرْث المَاضي للجماعاتِ الّتي حقَّقت التَّغيير؟ أم مُتَّسِقًا مع الخِطاب السِّياسي الجَديد الواعِد لقائِد التَّغيير؟.
ثمَّةَ اختبارٌ قريبٌ لما سوف تكون عليه هذه المرحلة السورية من خلال ما أُعلِن عن مؤتمرٍ للحوار الوطني
ثمَّةَ عَددٌ من المُلاحظاتِ الواجبةِ في الإجابةِ عن أسئلةِ المُستقبلِ السُّوري أناقشُ منهَا هنا ثَلاث ملاحظات أعتبرُها الأهمّ:
الملاحظةُ الأولى تتعلَّق بما تُظهرُه معلوماتٌ موثوقة وثابتة بتسجيلاتٍ مصوَّرة تمَّ التَّأكدُ من صحَّتِها بمعنى أنَّها ليست مُزيَّفة بالذَّكاء الاصطناعي، ومن أنَّ المكانَ الَذي وقعت فيه الأحداث التي انْطوَت عليها هذه التَّسجيلات هو الأراضي السُّورية، ومن أنَّ تاريخَ حدوثِها يعودُ لِما بعد الإطاحةِ بنِظام الأسد، والمُشكلةُ أنَّ هذه التَّسجيلات تُشير إلى ممارساتٍ تتناقضُ تمامًا مع الخطابِ السّياسي الجديد الوَاعد للقِيادةِ فإمَّا أنْ تكون راضيةً عن هذه الممارسات، أو غير قادرةٍ على منعِها، وهو ما يثيرُ القلقَ في الحالتَيْن.
وتشيرُ المُلاحظةُ الثَّانية إلى انفرادِ القِوى التي أسْقطَت نظامَ الأسد بالسُّلطة تَمامًا، وهو أمرٌ طبيعي ينسجمُ مع الخِبرةِ التَّاريخيَّةِ للحالات المماثِلة، والتي تُشيرُ إلى أنَّ القِوى التي تستولي على السُّلطة لا تُشْرِك غيرَها في معادلةِ القوَّة في النِّظام الجديدِ، على الأقلّ في المدى القصيرِ وربَّما المُتوسط، وهو ما تأكَّدَ مُؤَخَّرًا من إعلانِ القيادةِ الجديدةِ عن أنَّ المرحلةَ الانتقاليَّةَ ستصلُ إلى أربعِ سنوات، وثمَّةَ اختبارٌ قريبٌ لما سوْف تكونُ عليه هذه المرحلة من خلالِ ما أُعلِن عن مؤتمرٍ للحِوارِ الوَطني لا نَدري حتَّى الآن كيف اختيرَ أعضاؤه، خاصَّة وأنَّ أحدًا بخلافِ الفصائلِ المسلَّحة التي استوْلَت على السُّلطة لم يُمَثَّل حتى الآن في المعادلةِ السِّياسيَّة الجديدة، كما أنَّ ما جرَى مُؤخَّرًا من حديث عن تعديلٍ وحذْفٍ لبعض المُصطلحاتِ والأجزاء في المناهجِ الدِّراسيَّة لا يَبعثُ على الاطمئنانِ، كذلك فإنَّ طولَ المرحلةِ الانتقاليَّةِ كما يُمكن أن يسمحَ للسُّلطةِ الجديدةِ بترسيخِ أقدامِها فإنَّه يُمكنُ أن يَسمحَ أيضًا لمُعارضي الوضعِ الجديدِ بتنظيمِ صُفوفهِم وتفعيلِ معارضتِهم، وهو ما يعني أنَّ سيناريو عدمَ الاستقرارِ واردٌ في مستقبلٍ قد يكون قريبًا.
وتتعلَّق المُلاحظةُ الثَّالثة بالمواقفِ الدَّوليَّة مما جرى في سوريا، والتي يَتََّضِحُ أنَّ مُعظمَها بُنِيَ على أساسِ الابتهاجِ بأنَّ ثمَّةَ سُلطة جديدة في دمشق تُعلن صراحةً ألَّا نيَّة لأدْنى مواجهةٍ مع إسرائيل، لدَرجةٍ أنَّ جَرائمَ بحجْمِ انتهاكِ التزاماتٍ قانونيَّة واحتلالِ أراضٍ سُوريَّة جديدَة وتدميرِ الجيش السُّوري بأكملِه لم تدْفع السُّلطةَ الجديدةَ ولو لتقديم شكوًى في مجلسِ الأمن ضدَّ إسرائيل، وهو ما يعني أنَّ الضُّغوطَ على هذه السُّلطة للالتزامِ بخطابِها السِّياسي الواعِد ستكونُ في حدِّها الأدنى، وهو ما يعزِّزُ سيناريو عدم الاستقرارِ مستقبلًا.
ما حدث لا يُعبِّـر عن مختلف القوى التي عارضت النِّظام وناضَلت من أجل إسقاطه
في أعقابِ التَّغيير الذي وقعَ في سوريا، هاتفْتُ إحدى طالباتي السُّوريَّات التي تخرَّجت من معهدِ البُحوثِ والدِّراساتِ العربيَّة في القاهرةِ التَّابع للمنظمةِ العربيَّة للتَّربيةِ والثَّقافةِ والعلوم، إحدى منظَّمات جامعة الدُّول العربيَّة، وانتهى بها الحال في أعقابِ تَفجُّر ثورَة الشَّعب السُّوري إلى المَجيء لمصر التي تَحْتَضِنُ بِحبّ ملايينَ العرب، وتكنُّ للسوريِّين منْهم محبةً خاصَّة لأسبابٍ معروفةٍ للكافَّة، وكان الغرضُ من الاتِّصال هو الاطمئنان عليها ومعرفة خططِها المُستقبليَّة، وكان مضمونُ حديثِها كاشفًا، فهي واحدةٌ من أَلَدِّ خصومِ نظام الأسد، لكنَّها ذكرت بمرارةٍ أنَّ ما حدثَ لا يُعبِّر عن مختلفِ القوى التي عارضَت النِّظام وناضَلت من أجلِ إسقاطِه، وأجْهَشَت بالبكاءِ وهي تقولُ إنَّ سوريا تستحقُّ الأفضَل، فلنتمنَّى جميعًا أن يسدِّدَ الله خطى الشَّعبِ السُّوري الحبيب إلى صناعةِ الأفضَل لمُستقبلِه.
(خاص "عروبة 22")