ثقافة

الاستقامةُ الفكريَّة والنُّخبة العربيَّة

تَطَرَّقَ ماكس فيبر في كتابِه "العلمُ والسِّياسةُ بوصفهِما حِرْفَة" إلى أهميَّةِ اضطلاعِ رجُلِ العلمِ ورجُلِ السِّياسةِ بأدوارِهما الجوْهريَّة على أحسَن الوجوهِ لاستمرارِ حيويَّةِ المجتمعاتِ وفعَّاليتِها بصورةٍ مُنتظمَة. فالجامعيُّ مطالبٌ بالموضوعيَّة في شرحِ الوَضعيَّات وتحليلِها، و"تركِ الوَقائعَ وحدَها تتكلّم"، والتَّرفّع عن إقحامِ السِّياسةِ والإيديولوجيا في مُدرَّجاتِ الجامِعَة. بينما على رجُلِ السِّياسةِ العيْش من أجلِ السِّياسَة بنزاهةٍ وشَفافيَّةٍ بدلَ "العيشِ من السِّياسة" بوُصوليَّة.

الاستقامةُ الفكريَّة والنُّخبة العربيَّة

تُعَدُّ الاستقامةُ الفِكريَّةُ من المنظورِ المُشارِ إليْه آنِفًا مِهادًا أساسيًّا لنجاحِ النُّخبة في تأديةِ الأدوارِ المُنتظرَةِ منها اجتماعيًّا وحضاريًّا. فالاستقامةُ الفِكريَّةُ تعْني صفاءَ الذّهنِ وقدرتَه التَّمييزيَّة ورؤيتَه الواضحَة للتَّاريخِ والحاضرِ والمُستقبلِ، فضلًا عن بقيَّةِ الاعتباراتِ القِيَمِيَّةِ المُتَّصِلَةِ بالأخلاقيَّات المِهنيَّة والسِّياسيَّة والمَسؤوليَّة التَّاريخيَّة التي تفرضُ حدًّا أدنى من النَّزاهة والجسارَةِ في التَّعاملِ مع حيثيَّاتِ الواقعِ ومختلفِ الفاعِلين الاجتماعيّين.

لئِن كان لغيابِ الأرضيَّةِ السُّوسيو-ثقافيَّةِ دورٌ بَيّن في هشاشةِ وضعيَّةِ النُّخبةِ العربيَّةِ وانحسارِ تأثيرِها، وتعطُّل إنجازِ التَّغيير الجَذري الجَامِع، فإنّ عدمَ الإقرارِ بانعكاساتِ محدوديَّةِ استقامَةِ النُّخب الفِكريَّة على مختلفِ المَسارَات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة بالعالم العربي يُعَدُّ من بابِ المُخاتلةِ والمُكابدَة. فقد كانَ من نتائجِ انتشارِ ظاهرةِ "الزّبونيَّة" في الفكرِ والثَّقافةِ تفاقُمُ عمليَّةِ التَّلاعبِ بالعقولِ إلى حدٍّ أضحَت فيه بمثابةِ استراتيجيا قائمةِ الأركانِ ينتهجُها أعداء الأمّةِ بالدَّاخلِ والخارجِ عبْر وسائطَ مُتَعَدِّدَةٍ مُزركشةٍ غالبًا بشعاراتٍ برّاقةٍ خدَّاعَة. إنَّهَا تندرجُ ضمن إيديولوجيا "تزْييف الوَعْي" للمُحافظةِ على التَّوازناتِ القائمةِ وتأبيدِ التَّبَعِيَّة. ففي الوقتِ الذي كان يُفترضُ فيه اضطلاعُ النُّخبة العربيَّة بمسؤوليَّتِها التَّاريخيَّة بصفتِها الجهة المُؤتمنة على الأمنِ الثَّقافي والفِكري، فإنَّ فئةً مُهِمَّةً منها لا تَتوانى عن مجاراةِ ذلكَ التيَّار بوصوليَّةٍ وخِفَّةٍ عقليَّةٍ على الرَّغم من تاريخِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ الزَّاخرِ بمواقف نُخَبٍ خالِدة، رَفضَت الانصياعَ لحُجَّة القوَّة، وانتصرت لقوَّة الحُجَّة. فقدَّمَت مِثالًا أعلى في التَّضحيةِ بحياتِها فداءً لقناعتِها.

كشفت الأحداثُ العاصِفةُ التي شَهِدَتها المنطقةُ العربيَّة الخللَ البنيويّ العَميق في سلوكيَّاتِ النُّخبةِ العربيَّة

لعلّ ذلكَ يُفَسِّرُ انسياقَ قطاعٍ واسعٍ من النُّخبةِ إلى بناء آرائِها ومواقفِها على هامشِ الأحداثِ المُتسارعةِ ومُلاحقتِها بدل أن تكونَ أحكامُها وتوجُّهاتِها مُستندةً إلى مراجعاتٍ مُعمَّقةٍ تَوَقِّيًا من الوقوعِ في مزالقَ التَّلاعباتِ الإيديولوجيِّةِ والسِّياسيَّةِ التي غالبًا ما تقترنُ بتصريحاتِ السِّياسيّين المُتلوِّنة حسب المزاجِ العامّ والمَصالح الشَّخصيَّة والنّزوات الفرديَّة وإملاءات القوى الدَّوليَّة.

لقد كشفت الأحداثُ العاصِفةُ التي شَهِدَتها المنطقةُ العربيَّة على مختلفِ الأصعدةِ طيلةَ العقودِ الثلاثةِ الأخيرَة هذا الخلل البنيويّ العَميق في سلوكيَّاتِ النُّخبةِ العربيَّة. وهو خللٌ على علاقةٍ جدليَّةٍ بقصورٍ معرفي مزمنٍ في قراءةِ الواقعِ واقتراحِ البدائل الممكنة لتغييرِه. إذ كيف لعاقلٍ - على سبيلِ المثال - أن يستوعبَ حالةَ الإقبالِ والإدبارِ والكرِّ والفرِّ التي اتَّسمت بها رُدود فعلِ النُّخب الفكريَّة تجاه الانقلابِ الكلّي في سياسةِ بعض الحركات الجُذوريَّة ذاتِ النّزعة القتاليَّة بسوريا حاليًّا.

لم يُفْضِ ضمورُ الاستقامةِ الفكريَّة للنُّخب العربيَّة إلى مُهاتراتٍ سفسطائيَّة وتلوُّثٍ فكريٍ وتذبذبٍ سلوكيٍ فحسب، وإنّما كذلكَ إلى انتشارِ الفسادِ فترسَّخت ثقافتُه أفقيًّا وعموديًّا بحُكْمِ أنَّ غيابَ مفهومِ القُدوةِ الحَسَنَة في النَّسيجِ الاجتماعي والتَّضحيَة في سبيلِ المَصالحِ الوطنيَّة العُليا، أسْهمَ في انتشارِ ثقافةِ اليأسِ والوُصوليَّة. وتمّ بمقتضى ذلك التَّلاعب بالقاعدةِ الماكيافاليَّةِ الشَّهيرة المُتمثّلة في "الغايةِ تُبرِّر الوسيلة" لشَرْعَنَةِ المهانَة والذلّ والخيانَة وجرائم الاغتيال المَادي والرَّمزي.

يحتاج العالمُ العربي في هذا المنعطفِ الحاسمِ من تاريخِه إلى تكريسِ مبدأ الاستقامةِ الفِكريَّة في سلوكيَّات نُخبتِه بصفتِها مِهادًا أساسيًّا لاستعادةِ المِصداقيَّة بين النُّخبةِ والمُجتمعِ والنُّخبةِ والسُّلطةِ والنُّخبةِ والغَرب، بل حتّى بيْن مُكوّناتِ النُّخبةِ وعناصرِها لتجاوُزِ عوامِل التَّهرِئَة و"الفَقْرِ العلائِقي" وتضخُّم الذَّوات الفرديَّة، إذ شكَّلت تِلك المعطيَات عائقَا حقيقيًّا على جميعِ الأصعدة.

الاستقامة الفكرية تُوفِّر دفعًا وشحنًا أخلاقيًّا ومعنويًّا نحو التحرُّرِ الذَّاتي من الاعتقاداتِ الخَاطئة والإملاءات 

على الصَّعيد المُؤسَّساتي، يَنْدُرُ وجودُ العملِ المُؤسَّساتي المُنتظمِ القائِمِ على تراكُمِ المَعارف وتصحيحِها وتبادُل الخبراتِ وتكامُل الاختصاصاتِ، حيث تحوَّلَت عديد المُؤسَّساتِ إلى ما يُشبهُ "الحَوْزَةَ" أو "المزْرعةَ الخاصَّة" التي تحتكرُ نفوذَها فئةٌ محدَّدَة لا تتوانَى عن إقصاءِ المُختلفين عنْها بكلّ الطّرقِ والوَسائل.

أمّا على صَعيدِ التَّحرُّر من الوِصايةِ فإنّ الاستقامةَ الفكريةَ تُوفِّر دفعًا وشحنًا أخلاقيًّا ومعنويًّا نحو التحرُّرِ الذَّاتي من الاعتقاداتِ الخَاطئةِ والإملاءاتِ مهما كانَ مأتاها بكلِّ شجاعةٍ وجسارةٍ، إذا كانت تتعارضُ مع رِهانِ البحثِ عن الحقيقةِ والمعنى الذي يُعَدُّ المطمحُ الأكبر والغايةُ الأسمى للنُّخبِ الحقيقيَّةِ على مدارِ التَّاريخِ الإنساني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن