بصمات

الفكر العربي المعاصِر ومنعطف التحوّلات الجيوسياسية

عندما ألّف الراحل محمد عابد الجابري ثلاثيّة "نقد العقل العربي"، والتي أصبحت رباعيةً لاحقًا بعد صدور الجزء الرابع المخصّص للشقّ الأخلاقي، سوف تمرّ الساحة الثقافية العربية من فورةٍ في سياق التفاعل الكمّي والنوعي مع هذه الأعمال، سواء تعلّق الأمر بالأعمال الاحتفالية أو الأعمال النقدية، بما في ذلك الأعمال التي حاولت أن تنتصر للنّقد المعرفي وأخذ مسافة من النقد الإيديولوجي، على قلّتها.

الفكر العربي المعاصِر ومنعطف التحوّلات الجيوسياسية

على سبيل المثال، في السّياق النقدي بالتحديد، اتّضح أنّ تلك الثلاثية التي صدرت ما بين 1984 و1990، كانت سببًا وراء تأليف طه عبد الرحمن أولى أعماله حول قضايا التراث، أي كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث" (1994)، بصرفِ النّظر للمفارقة، عن بعض القواسم المشتركة بين العَمَلَيْن، أو بين المأزَقَيْن في معرض تحقيب العقل التراثي: الجابري يتحدّث عن عقلٍ بيانيّ وعقلٍ عرفانيّ وعقلٍ برهانيّ، وطه عبد الرحمن يتحدّث عن عقل الماديين وعقل الفقهاء وعقل الصوفية، بحكم نهل طه عبد الرحمن حينها من مرجعيةٍ صوفيةٍ، حتّى أنّه كان عضوًا في إحدى الطرق الصوفيّة.

مفارقة تبعث على الأسى عندما ننخرط في مقارنات بين الأوضاع العربية بعد النكسة والأوضاع اليوم

الأمر نفسه مع جورج طرابيشي الذي انخرط في تأليف سلسلة أعمال نقدية ضدّ الثلاثيّة نفسِها، تحت عنوان "نقد نقد العقل العربي" والتي صدرت ما بين 1994 و2004، من دون أن يحول ذلك من الإقرار لاحقًا، بفضل أعمال الجابري على مساره الفكري، مُكرّسًا بعض مقتضيات ثقافة الاعتراف النادرة بين رموز الفكر العربي المعاصِر.

قلّةٌ قليلةٌ من الكتب التي نافست ما صدر عن الجابري في سياق إطلاق أو معاينة فورة في التفاعل الجمعي العربي، ولا ينافسه في هذا المضمار إن لم يكن يتفوّق عليه، إلّا كتاب "الإيديولوجية العربية المعاصِرة" لعبد الله العروي، الذي كان صدوره في سنة 1967، محطةً ثقافيةً في المغرب والمنطقة العربية، من فرط ما حُرّر حوله من أعمال، بل نُظّمت ندوة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، هنا في المغرب، بمناسبة مرور نصف قرن على صدور الكتاب. (جرى ذلك في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن امسيك، ونُظّمت الندوة تحت عنوان "أثر كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصِرة في الفكر العربي"، وكان عبد الإله بلقزيز أحد مهندسي هذا الفعل الاحتفالي بأحد أهمّ الأعمال النظرية العربية التي صدرت خلال النصف الثاني من القرن الماضي).

جماعات وتيّارات تقبل بأن تصبح مجرّد أداة وظيفية بين أيدي قوى إقليمية أو دولية

واضحٌ أنّ نكسة 1967، كانت من بين الأسباب التي تقف وراء انخراط العديد من الأسماء الفكرية العربية في الاشتغال النظري على أسباب الهزائم العربية، وهذا ما أقرّت به العديد من الأسماء نفسها، سواء في مقدمة تلك الأعمال أو من خلال بعض الحوارات التي أجريت معها، لولا أنّ ما نعاينه منذ مطلع الألفية الثالثة، وخاصّة خلال السنوات الماضية، يكشف عن مفارقةٍ تبعث على الأسى عندما ننخرط في بعض المقارنات بين الأوضاع العربية مباشرةً بعد أحداث النكسة والأوضاع نفسِها اليوم، في ضوء تحوّلات جيوسياسية عدّة.

كان الخطاب القومي العربي في عزّ الانتشار، سواء من خلال الحضور الكبير للأحزاب السياسية المُدافعة عن الطرح القومي، بما في ذلك حضور قادة وزعماء سياسيين، أو مع صدور مجموعة من الأعمال النظرية في هذا السّياق. والأمر نفسه مع طبيعة العلاقات الثنائية بين أغلب الدول العربية أقلّها تأمل حضور القادة العرب في القِمم العربية، بل كانت هذه القِمم تحظى بمتابعاتٍ إعلاميةٍ وازنةٍ، في تباين كلّي رهيب مع تفاعل الإعلام العربي نفسِه مع القمة الأخيرة التي نُظمت في العاصمة العراقية بغداد يوم 17 مايو/آذار الماضي، والتي تميّزت بمقاطعة أغلب القادة العرب.

الشاهد هنا، أنّه بينما كنا ننتظر أن نعاين مواكبةً نظريةً لهذه التحوّلات العربية، من خلال صدور أعمال عدّة تساهم في القراءة والتقييم، تهمّ صانع القرار كما تهمّ الرأي العام، نعاين خلاف ذلك. وهذا أمرٌ مقلقٌ جدًّا وعلى أكثر من صعيد، أقلّه إنّه يُغذّي خطاب انعزالية المثقف العربي أو "هزيمة" الفكر العربي من هوْل المستجدّات السلبيّة التي تمرّ منها المنطقة (السودان أصبح دولتَيْن، اليمن مصنّف في خانة الدول الفاشلة، ليبيا مهدّدة بتكرار السيناريو السوداني... ضمن أمثلة أخرى لا تبعث على التفاؤل).

الوضع العربي لا يحتمل المزيد من لامبالاة أهل النظر والتفكّر

هذا من دون الحديث عن ظهور الإيديولوجيات الدينية، الدعوية والسياسية والقتالية، وتورّط بعض رموزها في ما يُشبه الدفاع عن تقسيم دول المنطقة، من حيث تدري أو لا تدري، خاصّةً عندما تَقبل بعض الجماعات أو التيّارات بأن تصبح مجرّد أداة وظيفية بين أيدي قوى إقليمية أو دولية، وما أكثر الأمثلة في هذا السياق، ابتداءً على الخصوص من منعطف 1978، أي منعطف الحرب السوفياتية والثورة الإيرانية.

نحتاج إلى جرعاتٍ فكريةٍ عربيةٍ تُحيي الأمل لدى الشارع وصانعي القرار في آن، لأنّ الوضع العربي الرّاهن لا يحتمل المزيد من لامبالاة أهل النظر والتفكّر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن