ليس من المستغرب أو حتى الجديد أن تسعى هذه الإدارة الأميركية أو غيرها إلى تحقيق هذا الهدف، والدوافع لا تُعد ولا تُحصى إسرائيليًا وأميركيًا، أبرزها تحقيق رغبة إسرائيلية جامحة ومزمنة بعلاقات طبيعية مع الدول العربية، والمدخل الطبيعي هو المملكة خصوصًا بعدما تبيّن حدود التطبيع مع مصر والأردن وحتى مؤخرًا الاتفاقات الإبراهيمية. إلى ذلك، من شأن هذا "الحلم الأميركي" إذا تحقّق أن يُخرج إسرائيل من أزمتها الداخلية من دون تدخّل أميركي مباشر ترفضه قوى كثيرة من اليهود الأميركيين باعتباره تدخلًا بالشؤون الداخلية لإسرائيل، مقدّمًا لبنيامين نتنياهو فرصة تاريخية بكل المقاييس، له شخصيًا ولإسرائيل بعامة، للاختيار بين الإنجرار وراء اليمين المتشدّد وبين علاقات طبيعية مع العرب، وذلك عبر تشكيل حكومة جديدة مع المعارضة تقيّد أدوار هذا اليمين المتطرّف.
أميركيًا، نتائج هكذا انجاز تاريخي ستنعكس إيجابًا على الرئيس بايدن المرشح لولاية ثانية وحزبه الديمقراطي، لجهة كسب أصوات اليهود الأميركيين والشرائح المؤيدة لإسرائيل. كما أنّ حصول التطبيع يُخلّص أميركا من أحد همومها الرئيسة في المنطقة وامتداداته على قضايا متعددة، ما يتيح لها التفرّغ لمشاغل أخرى في الإقليم وخارجه ويسمح بالتفكير بالتموضع السياسي والأمني الأميركي في المنطقة. وستطال النتائج بخاصة الأدوار الإيرانية المزعزعة التي تستعمل فلسطين والفلسطينيين كطريق معبّدة سالكة لتدخّلاتها السياسية والأمنية في شؤون دول المشرق العربي. إلى هذا، ستكسب تعاون السعودية في حل أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب في أوكرانيا وتُطمئن الدول الحليفة حول التزامها بأمنها. ومن شأن المبادرة أيضًا إحتواء نتائج التقارب الإيراني-السعودي نتيجةً للوساطة الصينية، دون أن يعني ذلك رغبة واشنطن بعودة التوتر بين البلدين وتداعياته على استقرار المنطقة المهمّ جدًا للأميركيين. وفي الوقت نفسه، تكون واشنطن ردّت على بكين بحدث يفوق أهمية، على مستوى المنطقة، المبادرة الصينية التي أعادت العلاقات بين الرياض وطهران.
الواقعية السياسية تجعل حظوظ تحقق هذه المبادرة متخيّلة وحالمة إلى حد كبير
اللافت أنه مقابل هذا الضجيج الأميركي وحتى الإسرائيلي حول هذه المسألة، لم يصدر عن الرياض أي تعليق رسمي، ولم يُفهم من المبادرة ماذا ستجني المملكة من أي إتفاق محتمل ينبغي ان ينعكس عائدات جدية للأطراف المعنية كافة وليس فقط لأميركا وإسرائيل. علمًا أنّ تقارير إعلامية تحدثت عن مطالب سعودية، وسبق للأمير محمد بن سلمان أن فتح كوة في الجدار عندما أعلن في مقابلة صحافية أنّ إسرائيل هي "حليف محتمل" في حال قامت بحلّ المشاكل مع الفلسطينيين.
الواقعية السياسية تكبح التفاؤل في حظوظ تحقق هذه المبادرة، بل تجعلها متخيّلة وحالمة إلى حد كبير، وتعكس للأسف حقيقة عدم فهم الساسة وأرباب التخطيط السياسي في واشنطن الكافي لشؤون وشجون المنطقة، ولا للشأن الفلسطيني، ولا للمتغيّرات التي شهدها الإقليم برمّته، وبخاصة الحقبة الجديدة التي دخلتها المملكة العربية السعودية.
التصوّر الأميركي للتسوية يصطدم بعقبات ثلاث رئيسة: الأولى والأهمّ هي إسرائيل نفسها، والثانية الإنقسام الفلسطيني وخلفياته التي تتجاوز فلسطين وشعبها وهمومها إلى مصالح وسياسات وأهداف المحور المسمّى بالممانعة وعلى رأسه إيران وحلفائها في المنطقة، والثالثة هي ما يُعرض على الفلسطينيين، بحسب ما سُرّب عن مضمون المبادرة، ويصعب هضمه فلسطينيًا وعربيًا مع تجاهله موضوع مدينة القدس كليًا.
على واشنطن التوقف عن التأييد الأعمى لإسرائيل بالإلتفات أكثر إلى الفلسطينيين
العقبة الاولى هي مع أيّ إسرائيل ينبغي تطبيع العلاقات؟ هل مع إسرائيل المنتفضة في تل أبيب ومناطق أخرى احتجاجًا على انقلاب اليمين المتشدّد الديني والعنيف على الديمقراطية، أم مع يمين يجسّده بتسلائيل سمورتيتش وإيتامار بن غفير والأحزاب الدينية وهم يمثلون تقريبًا نصف المجتمع الإسرائيلي؟ الحكومة الحالية لا تستطيع أن تلبي أي طلب فيما يتعلّق بأيّ تقدّم على المسار الفلسطيني، لأنها سوف تنهار، فهل يقتنص نتنياهو هذه الفرصة بفرط الإئتلاف وتشكيل حكومة جديدة تضمّ المعارضة وتُبعد المتشددين عن السلطة؟ هل يفعلها وهو القائل إنّ تطبيع العلاقات مع السعودية سيكون واحدًا من الأهداف المركزية له؟
اما العائق الفلسطيني فتشعباته كثيرة ولا يقتصر فقط على انقسام الفلسطينيين، إنما يرتبط بسياسات إقليمية تبدأ بالرغبة بطرد الأميركيين من المنطقة كما يُعلن الممانعون مرارًا وتكرارًا، إضافةً إلى ركوب الحصان الفلسطيني للتمدد في دول المنطقة والإمساك بقرارها كما يجري في لبنان والعراق واليمن وسوريا. وقد أدلت إيران بدلوها في موضوع التطبيع بين إسرائيل والممكلة حين اعتبر المتحدث باسم وزارة خارجيتها، ناصر كنعاني، أنه "لن یساعد الشعب الفلسطيني"، ولا يصبّ في مصلحة فلسطين ولا في مصلحة السلام والأمن في المنطقة.
العقبة الثالثة هي ما سُرّب عن مضمون المبادرة لجهة الشأن الفلسطيني، إذ تنسحب صعوبة قبوله عربيًا وفلسطينيًا، لا سيما اذا اقتصرت التسوية على مساعدات مالية لتحسين أوضاع الفلسطينيين ووقف بناء المستوطنات وتوسيع نطاق مهام السلطة الفلسطينية إلى مناطق جديدة ما تزال تحت السيطرة الإسرائلية، دون أي إشارة إلى موضوع مدينة القدس و"حلّ الدولتين".
يصعب تخطي هذه العقبات، إنما إذا كانت أميركا عازمة على التوصل إلى "اتفاق يُغيّر وجه الشرق الأوسط"، حري بها الانتقال من النيات الحسنة إلى التنفيذ، وملاقاة التطورات السعودية التي جعلت سياساتها برغماتية رشيقة تتمسّك بالثوابت وتتعامل مع المتحوّل، والتوقف عن التأييد الأعمى لإسرائيل بالإلتفات أكثر إلى الفلسطينيين وأوضاعهم وحقوقهم، وإلى ما يطلبه الحلفاء والشركاء العرب، ما يعيد التوازن المفقود منذ عقود، ويحوّل المبادرات من سراب إلى حقيقة.
(خاص "عروبة 22")