وجهات نظر

مُختصَر حكاية "يناير المصري"

يناير/كانون الثاني بالذّات، ومعه أحْيانًا الشَّهر اللّاحق فبراير/شباط، لهما في تاريخِ المِصريّين وضعٌ خَاصٌ ومُميزٌ جِدًّا، إذْ تَتَزَيَّنُ أيامُ هذين الشَّهريْن بأحْدَاثٍ خَالدَة، لعلَّ أشهرَها الانتِفاضةُ الشَّعبيَّةُ الضَّخمةُ التي عُرِفَتْ بثورة 25 يناير 2011، تِلك التي انتهَت بإسقاطِ نِظامِ الرَّئيسِ الأسْبَقِ حُسني مُبارك وأسْرتِه بعد أن حَكَموا البلادَ لثلاثين عامًا مُتَّصِلَة.

مُختصَر حكاية

غيْر أنَّ هذه الانتفاضةَ العَارِمَةَ لم تكُن الأولى، فقد شَهِدَت مصر قبلَها في سبعينيّات القرنِ المَاضِي انتفاضةً شَعبيَّةً هائلةً مُماثلةً اجتاحَت أهمَّ المُدنِ المِصريَّة بما فيها العاصمة، لكنَّها استمرت لمُدَّة يوميْن فقط (18 و19 يناير/كانون الثاني 1977) وانتهت، بعد أن اضطُرَّ الرَّئيس الرَّاحل أنور السادات إلى المُسارعة بالتَّراجُعِ وإلغاءِ القراراتِ الاقتِصاديَّة التي فَجَّرَت غَضبَ المَلايين ودَفَعَتْهُم للخروجِ إلى الشَّوارِع.

هَاتَان الانتفاضتَان اللّتان وَقَعَتا في شهر يناير كانَتَا امْتدادًا لسِلسلةٍ تَاريخيَّةٍ طويلةٍ من الانتِفاضَاتِ المِصريَّة "اليَنايِريَّة" التي توالَت منذُ مطلع الثُّلث الأوَّل مِن القرنِ الماضي أيام الاحتلالِ البَريطاني، فعلى سَبيلِ المِثالِ بدَأت الانتفاضةُ الشَّعبيَّةُ العَارِمةُ ضدَّ الاحتِلالِ بمظاهراتِ الطَّلبة في يناير عام 1935، واستمرَّت فعاليَّاتها طوال السَّنة وامتدَّت حتَّى الأسبوع الأخير من شهرِ أغسطس/آب في السَّنة التَّالية (1936).

انتفاضة يناير-فبراير 1946 أفْرَزَت تَأسيس "اللّجنة الوطنيَّة للطَّلبة والعُمَّال"

تلك الانتفاضَةُ التي بدأَها الطَّلبَة وقَادوها، اسْتَقطَبَت قطاعاتٍ واسعةً من المصريّين شاركوا بحماسةٍ في فعاليَّاتِها وهَبَّاتِها المُختلفة حتى أُجْبِرَت بريطانيا على إبرامِ مُعاهدَة 1936 مع الحكومة المصريَّة آنذاك، قبل أن يُدْرِكَ الشَّعبُ ونُخبتُه الثَّوريَّة بسرعةٍ أنَّ المُعاهدةَ تِلك لم تَكْفَلْ أيّ سِيادَةٍ ولم تَسمَح بأيّ استقلالٍ حَقيقي لبلادِهم وإنَّما كانت مُجَرَّد مُراوغةٍ فَجَّةٍ والتِفافٍ مَفْضوح حول مطلبِهم الوطني الرَّئيس، ألا وهو تحقيقُ الجَلاءِ التَّام لقوّاتِ الاحتِلال، ما يفتحُ الأبْوابَ أمامَ تطوُّرٍ اقتصاديٍ واجتماعيٍ وسياسيٍ يَكفَلُ للمِصريّين الانطلاقَ نحوَ بناءِ وطنٍ حرّ وسَيِّد ينعمُ أهلُه بحقِّهم في النَّهضَةِ والرَّفاهِ والحُرِّية والعَدالة.

بعد ذلك، اندلعت الحَربُ العَالميَّةُ الثَّانيَةُ فَخَفت أُوَارُ الكِفاحِ الوَطَني قليلًا، لكن لمَّا انقشَعَ غُبارُ الحَربِ، عَاوَدَ المِصريّون من جَدِيد هبَّاتِهم وانتِفاضَاتِهم ضدَّ المُستعمِرِ وأتباعِه، وبقيَ الطَّلبَةُ هم طَليعَةُ هذه الانتِفاضاتِ التي كان أهمّها انتفاضة يناير- فبراير 1946، التي أفْرَزَت الحدثَ السّياسِي والاجتِماعي الأهمّ والأخطر في تاريخِ مصر المُعاصِر ذاكَ المُتَمَثِّل في إعلانِ تَأسيسِ "اللّجنة الوطنيَّة للطَّلبة والعُمَّال" لقيادةِ الحَركةِ الوطنيَّةِ الجَمَاهيريَّةِ المُشْتَعِلَةِ ضدَّ الثُنائي المُعادي للتَّحَرُّرِ والنُّهوضِ، أي سُلطَة الاحتلالِ من جانب، والقَصْر المَلَكِي ومعه زُمْرَة السِياسيّين العُمَلاء من جانب آخر.

انتفاضة يناير-فبراير بلغَت ذُروتَها يوم 21 فبراير عندما خَرجَت من جامعةِ القاهرة مُظَاهَرةٌ ضَخمَةٌ مِن الطُّلَّابِ لِيَلتَقوا عَشرَات آلاف المُواطِنين الآخَرين خُصوصًا عُمَّال الوُرَشِ والمَصَانِع، وقامَت الشُّرطةُ بالتَّصَدّي لهم وتَعامَلَت معهُم بقسْوةٍ بَالِغَةٍ فانتهى اليوم بحصيلةٍ ثقيلةٍ من الشُّهداءِ والجَرْحَى بلغَ عددُهم ما يقارِبُ المائتَيْن، ولهذا اعتُبِرَ يوم 21 فبراير هو يومُ عيدٍ للطُّلَّابِ المصريّين تخليدًا واحتِفاءً بكِفاحِهم الوَطني.

ظلَّ شهرُ يناير بَعدَ ذَلك، وحتَّى قيام ثَوْرَة يوليو/تموز 1952، يَشْهَدُ ذكرى سَنويَّة مُنْتَظِمَة لانتفاضاتِ الطّلَبَةِ ومن خَلْفِهِم بَاقِي فِئاتِ الشَّعبِ المِصري ضدَّ المُحْتَلّ، ثم بعْدَ ثورة 23 يوليو/تمّوز 1952 التي حَقَّقَت الجَلَاء، اخْتَفَت وخَفَتَت جدًّا تلك الانتفاضاتِ "الينايريَّة"، لكنَّها عادَت بقوَّة ابتداءً من شهر فبراير عام 1968، عندما خَرَجَ الطُّلّابُ المصريّون لأوّلِ مرَّة أثناء حُكمِ جمال عبد النّاصر، احتجاجًا على الأَحكَامِ التي صَدرَت آنذاكَ ضِدَّ قادةِ سلاحِ الطّيَران باعتِبارهِم قَصَّروا في أداءِ وَاجبِهم أثناءَ الحربِ ما أدّى إلى ضَخَامَةِ حَجْمِ الهزيمةِ في يونيو/حزيران 1967.

اختلطَت القضايا وتشابَكَت الشِّعارَات وتنوَّعَت ما بين قضايا وطنيَّة وقضايا اجتماعيَّة واقتصاديَّة

في مطلعِ عقْد السَّبعينيّات، بعد رَحيلِ جمال عبد النّاصر، عاد مِن جديد شهرُ يناير/كانون الثاني ليتبوَّأ مَوْضِعَه المُمَيَّزَ ضِمْن أشهر السَّنةِ، كموعدٍ لانطلاقِ الحِراكِ الثّوري الطُّلَّابي، وإنْ اتَّسَعَت هذه المرَّة أسبابُه وتنوَّعَت شِعاراتُه، فلمْ تَعُدْ "القَضيَّةَ الوَطنيَّة" وحدَها هي العُنوان، على نحوِ ما كان في ثلاثينيّاتِ وأربعينيّاتِ القَرنِ العِشرين، وإنَّما اختلطَت القَضَايَا وتشابَكَت الشِّعارَات، وتنوَّعَت ما بين قَضَايَا وطنيَّةٍ مثْل المُطالبةِ بالحربِ لتحريرِ الأرضِ الّتي احتُلَّتْ في حرْبِ يونيو/حزيران، وكذلك الاحتجاج بعد حربِ أكتوبر/تشرين الأوّل على سياسات الرَّئيس أنور السّادات التي اعتَبرَتْها كُتلةٌ شعبيَّةٌ كَبيرَةٌ من الطَّلبة المِصريّين "سياسات استسلامٍ للعدوّ"، فضلًا عن قضايا اجتماعيَّةٍ واقتصاديَّةٍ أخرى، كغِيابِ العدالة وتَفَشّي الفَسَاد وعدمِ الشُّروعِ في بناءِ نظامٍ ديموقْراطي حَقيقي.

هذا هو مُخْتَصَرُ حكايةِ "يناير المِصري"... أمّا لماذا هذا الشَّهر بالذَّات استَحْوذَ وحدَه (مع جارِه "فبراير") على أزمانِ الانتِفاضَاتِ الشَّعبيَّة؟

هناك حُزمةٌ من الأسبابِ أهمُّها، أنَّ شهر يناير مناسبٌ جدًّا للطَّلبةِ الذين كانوا قلبَ وقِيادةَ الأغلبيَّةِ السَّاحِقَةِ من انتفاضاتِ المصريّين في تاريخِهم المُعاصِر والحديثِ كلّه، وهو أمرٌ جعلَ كثيرٌ من البَاحِثين في تاريخِ الحركةِ الطُّلَّابيَّة المصريَّة يَنْسبونَ للمُؤرِّخِ والباحثِ الأكَاديمي الأميركي من أصل ألماني، والتر لاكير (1921- 2018) قوله في واحدةٍ من دراساتِه: "... لم يَعْرِفْ التاريخُ مُجْتَمَعًا لَعِبَ فيه الطَّلبَةُ والمُثَقَّفون عُمُومًا، دورًا طَلائعيًّا في الحَركةِ الوَطنيَّة، كما حدثَ في مصر".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن