وجهات نظر

لماذا تستمرّ الحرب السودانيّة؟

تتَّجِهُ مُعْظَمُ التَّقديرَاتِ إلى وجودِ إمْكانيَّةِ استِمْرَارِ الحَرْبِ السُّودانيَّة خلال 2025، وذلك على الرَّغم من تَوسُّع الكُتْلَةِ السُّودانيَّةِ السِّياسِيَّةِ والشَّعْبِيَّةِ الدّاعِيَةِ إلى وَقْفِ الحَرْبِ، وكذلكَ بِوجودِ مَجْهوداتٍ إقليميَّةٍ ودوليَّةٍ تَسيرُ في الاتِّجاهِ عينِه.

لماذا تستمرّ الحرب السودانيّة؟

على الرَّغم مِن التَّفسيرِ السِّياسِي العام بأنَّ استمرارَ الحَربِ مُرتبطٌ بِالإرادةِ السِّياسيَّةِ لأطْرافِ الصِّرَاعِ، لكِن لا يُمكنُ إهْمَال أنَّ العَامِلَ القَبَلِي والعِرْقِي ساهمَ في أمْرَيْن؛ الأوَّلُ استمرارُ هذِه الحرْب بلّ والسَّيْرُ نحوَ تَقْسِيمِ السّودان بإرادةٍ داخليَّةٍ تحت عنَاوين مُنَاهَضَة سُلطةِ النِّظام القَديمِ وإقامَةِ نظامٍ بديلٍ يتَّسمُ بالدّيموقراطيَّةِ، أمَّا الأمُر الثَّاني فهو مستوى البَشاعةِ في الأدَاءِ ضدَّ المُواطِنين المَدنيّين خُصوصًا ضدَّ النِّساءِ بمُمارسةِ الاغْتِصَاب.

إعلانُ حكومةِ المَنفَى سوف يساهِم في بلورة نتائج خطرة تتضمَّن الاتِّجاه نحو تقسيم المعارضة المَدنيَّة

ولَعَلَّ هذا العَامِلُ القَبَلِي هو ما يَدفعُ حَاليًّا إلى الاتِّجاهِ نحوَ تَكوينِ حُكومةِ مَنْفَى في السّودان من المُتوقَّعِ أن يتمَّ الإعلانُ عنْها قريبًا، في الأغْلبِ ستكونُ عاصمتها مدينة "الضّعين" بإقليم دارفور في غرب السّودان.

القِوى الدَّافِعَةُ وراءَ تَكْوينِ حُكومةِ المنفى هي قِوًى منتميَّة إلى إقليمِ دارفور بالأسَاس، وتَنْتَمِي إلى العِرْقِ الزِّنْجِي بَعْضُ عَناصرِها كانوا أعضاءَ في المَجلسِ السّيادي السّوداني، ولكنَّهم باتوا حاليَّا في تَحَالُفِ المُعَارَضَة "تنسيقيَّة تقدّم".

وبطبيعةِ الحال سوف يساهِمُ إعلانُ حكومةِ المَنفَى في بَلْوَرَةِ نَتَائِج خَطِرَة تَتَضَمَّنُ الاتِّجاه نحو تقسيمِ المُعارَضَةِ السّودانيَّةِ المَدنيَّةِ من جَديد وبالتَّالي إضْعافها وإضعاف جُهودِها في وقْفِ الحرب، كما ساهمَ مِن قبل في إضعافِ التَّحالفِ الثّوري المَدَنِي وانتقالِه من مُرَبَّعِ القوْميَّة الجَامِعَة بعدَ ثورةِ 2018 إلى حالةِ التَّمايُزِ العِرقِي والقَبَلِي، وذلكَ بالتّوقيع على "اتفاق جوبا" في 2020، وهو الأمرُ الذي سَاهَمَ في خَرْقِ الوَثيقةِ الدُّستورِيَّةِ المُوقَّعةِ في أغسطس/آب 2019 بين القِوى السّياسيَّة السّودانيَّة وبين المُكَوِّنِ العَسكَري، وأَضْعَفَ الوَزْنَ السّياسِي المَدني أمام المُكَوِّن العسْكري السّوداني.

في السِّياق عينه، يمكنُ ملاحظةُ أنَّ العَامِلَ القَبَلِي السّوداني ودورَه في صناعةِ السّياسَةِ هو عاملٌ تاريخي يعودُ إلى مطلعِ القرنِ العِشرين حين بَرَزَت الطّوائفُ الدّينيَّةُ في السّودان (الخَتميَّة والأنْصار) في عِشرينيّات القرنِ المَاضي على أُسُسٍ دينيَّةٍ وتَكوينِهما لأحزابٍ سِياسِيَّةٍ في مُنتصف الأربعينيّات من القَرنِ المَاضي أبرزهما حزبا "الأمَّة" و"الاتِّحادي الدّيموقراطِي والشَّعبي" على التَّوالي، وقد لعبَ دورًا أسَاسيَّا في صُعودِ دَورِ القَبيلةِ السّياسِي، وكذلكَ في الصِّراعِ بيْن الطّائفيَّةِ والحَداثَةِ داخلَ الحزبِ الوَاحدِ وهو ما يُفسِّر لنا حالةَ التَّحالُفاتِ الطَّائِفيَّةِ القَبَليَّةِ التي مَارَسَهَا تاريخيًّا الحزبان الكبيران في إطارِ التَّنافُسِ بينهُما خُصوصًا في منطقتَيْ جنوبِ وغربِ السّودان. كما يُفسِّر لنا الصِّراعَ السّياسِي بيْن الزَّعيمِ إسماعيل الأزهري القُطبِ الاتِّحادي العتيد وبيْن رئيسِ الطّائفةِ "الخَتْمِيَّة" علي الميرغني وهو الصِّراعُ الذي يُلقِي بظلالِه حتّى الآن على الحَالةِ السّياسِيَّة السّودانيَّة.

وقد لعبَ العَامِلُ القَبَلِي والعِرقي أيضًا دَورًا في عَدمِ استقرارِ النِّظامِ السّياسِي السّوداني منذ استقلالِ الدَّولةِ عام 1956 مِن حيثُ القُدْرَةِ على قِيامِها بِوَظائفِها الأسَاسيَّة خُصوصًا ما يتعلَّقُ بالسَّيطرةِ على كَامِلِ التُّرابِ الوَطَني مع الحربِ الأهليَّة بين شمالِ وجنوبِ السّودان منذ مُنتصَفِ الخَمسينيّات، وهيَ الحَربُ التي بَلْوَرَت اتِّجاهَ الحكوماتِ في المرْكز (الخُرطوم) للتَّحالُفِ مع القَبائِل على أُسُسٍ عِرْقِيَّةٍ أحيانًا وأُسُسِ التَّنافُسِ السّياسِي في أحيان أخرى، وهو الأمر الذي أَسْفَرَ مَثَلًا عن العمليّات الثأريَّة العَسكريَّة التي جَرَت في خريفِ العَامِ المَاضي من جانبِ قوّات الدَّعْمِ السَّريع ضدَّ قبيلةِ القَائِدِ أبو عاقلة كيكل في وِلايةِ الجَزيرةِ، عطفًا على تَغييرِ هذا القَائِدِ وَلاءَه العسكَري من قوّاتِ الدَّعمِ السَّريعِ إلى الجَيشِ السّوداني، وهو التَّطوُّر الّذي رَاكَمَ من تأِثيرِ العاملِ القَبَلِي في مسارِ العَمليَّات العَسكريَّة.

يُشَكِّل العاملُ القَبَلي دورًا في عدم التّوافق على الهُويَّة السّودانيَّة

وحاليًّا يبرزُ العَامِلُ القَبَلِي داخلَ الأحْزابِ السّودانيَّةِ ويُسَبِّبُ انْقساماتٍ مُؤَثِّرَة في عدمِ القدرةِ على بَلْوَرَةِ توافقٍ سِياسِي بشأنِ التَّفاعُلاتِ الرَّاهنَة سواءَ في كَيْفِيَّةِ وقفِ الحربِ أو الموقفِ من أطْرافِها العْسكريَّة، أو حالةَ التَّحالفِ مع الأحزابِ والقِوى السِّياسيَّةِ الأخرى، أو حالةَ التَّوافُقِ من عدمِه مع دُولٍ عَربيَّةٍ وجِهاتٍ إقْليميَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ في مَساراتِ الحَربِ السّودانيَّة.

هكذا يُشَكِّلُ العاملُ القَبَلِي دَورًا في عدمِ التَّوافُقِ على الهُويَّة السّودانيَّة المُؤَثِرَة بالضَّرورةِ في وجودِ حَالةِ اندماجٍ وَطَني مِن عَدمِه، وربَّما تُشَكِّلُ معركةُ جمال عبد النَّاصِر لِضَمِّ السّودان إلى الجَامعةِ العربيَّةِ أحد مظاهِر هذه الأزمة تَاريخيَّا حين انْقَسَمَ السّودانيّون على طَبيعةِ هُويَّتِهم.

وكان تصريحُ وزير العدلِ السّوداني في الحكومةِ المَدنيَّةِ نصر الدين عبد الباري المُنْحدِر من دارفور، والفاعِل حاليًّا في مجهوداتِ تَكوينِ حكومةِ المنفى السُّودانيَّة، بشأنِ العَلاقةِ مع إسرائيل عام 2021، وإشارته إلى أنَّ الموقفَ من إسرائيل لم يكن محلَّ إجماعٍ قوْمي سُوداني، قد شكّل دليلًا على استمرار تأثيرِ العاملِ القَبَلِي والعِرقي في تشكيلِ المَواقِف من مستقبلِ دولةِ السّودان، ومَسَارَاتِ الحرب الرَّاهِنَة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن